تبذل وزارة المياه ما تستطيع من جهود حميدة من أجل الوصول إلى إدارة ناجعة لهذا القطاع الحيوي المعقد. يشمل ذلك عملية الإدارة اليومية و صيانة الشبكات الفرعية والرئيسية. هذا إضافة إلى جهود وقف الاعتداءات على شبكات و مصادر المياه والتي أصبحت نمطا سائدا في طول البلاد و عرضها، وأصبح كسر الخطوط و الاستيلاء على المياه المتدفقة أو تغيير اتجاهها ظاهرة تتكرر في المكان الواحد عشرات المرات. و تساعد “العقوبات غير الرادعة و الإدانات غير المعلنة” على تزايد العبث و تفاقم الأزمة،و حرمان المواطنين من حقوقهم .
وبدخول 1.2 مليون إنسان من اللاجئين السوريين ، والعمالة الوافدة والزائرين المقيمين، فإن حجم السكان الذين هم بحاجة يومية للمياه أصبح يتعدى (8) مليون نسمة. فإذا أضفنا إلى ذلك التغيرات المناخية، و ما يرافقها من ارتفاع درجات الحرارة وقلة الأمطار، وزحف التصحر بما يعادل 1.5% سنويا من مساحة الأراضي، فإن مشكلة المياه في البلاد غدت مسألة وطنية إنسانية معقدة، تتطلب الرؤية العلمية المستقبلية، و “العمل الفوري وليس ترحيل المشكلة إلى المستقبل”، كما وقع في قطاع الطاقة. فالشرق الأوسط فقير بالمياه ،وقد أصبحنا ثالث أفقر دولة في المياه في العالم، وما كان يفترض بأن حروبا إقليمية ستقع من أجل المياه، أصبح يحمل معه خطر الحروب الجهوية والأهلية لذات السبب .
والسؤال: ماذا نتوقع؟ وهل هناك حلول؟ أم علينا الاستسلام و الانتظار؟ و هنا نؤكد ونكرر ما هو معروف، إذا قلنا أن هناك فرص حقيقية للحلول. وهي” فرص تراكمية وليست شاملة و كلية” كما يتوقع المترددون . تتمثل الحلول التراكمية في: أولاً: الإدارة الرشيدة للمياه. ثانيا: حفظ المياه بالوسائل التكنولوجية و الإدارية و التثقيفية من الهدر أو السرقة أو الاعتداء، و تغليظ العقوبات دون تردد أو تسويف. ثالثا: إعادة تنظيم و رفع كفاءة تدوير المياه العادمة، و عدم التفريط بها لغير الزراعات المناسبة. رابعا: وضع و تنفيذ برنامج وطني شامل للحصاد المائي و التوسع في إنشاء السدود الصغيرة والترابية على أنواعها. خامسا: تحلية المياه. سادسا:الإستمطار أو الأمطار الصناعية. سابعا: تعديل البيئة الجغرافية.
إن الحلول الإقليمية تمثل إضاعة للوقت والفرص. فهي في المرحلة الراهنة بعيدة الاحتمال و ربما ستبقى كذلك للعشرين سنة القادمة. وهذا يعني أن على الدولة و ليس فقط وزارة المياه أن تأخذ الموضوع بمنتهى الخطورة والجدية. وان يكون هناك ” مجلس وطني أعلى للمياه” يعمل على إدارة الأزمة وتقديم الرأي والمشورة للحكومة. ومع هذا لا بد من الاعتراف بأن مؤشرات العمل الرسمية لا زالت تتعامل إلى حد كبير بعيدا عن البدائل المختلفة وتركز فقط على الحديث عن نقص المياه. الأمر الذي يضع علامات استفهام كثيرة.
فمسألة إعادة تدوير المياه والتي تنتج سنويا ما يقرب من (30) مليون متر مكعبا يتوقع أن تصل عام 2025 إلى 100 مليون سوف تبتلعها المحطة النووية غير المبررة و غير المجدية و المفعمة بالأخطاء و الأخطار، و التي تصر هيئة الطاقة النووية على وضعها ليس في موقعها الطبيعي في العقبة، وإنما في وسط البلاد، حيث لا ماء للتبريد، و”لا ماء أبدا في حالة الكارثة النووية”. والثانية أن تحلية المياه المالحة مصدر لا بديل عنه أبدا، وسوف يصبح خلال العقدين القادمين المصدر الأهم و المنتشر في المنطقة. وليس هناك من سبب مقنع أبدا لماذا لم تباشر الدولة حتى الآن بإنشاء محطات لتحلية مياه البحر بالطاقة الشمسية في العقبة وربطها مع خط الديسسي وتغذية الجنوب والوسط. و المنتجون والمستثمرون مستعدون لتمويل هذه المشاريع و تشغيلها خلال أقل من 5 سنوات. والثالثة أن الأمطار الصناعية أو الإستمطار هي تكنولوجيا غير مكلفة و غير معقدة و معروفة منذ 100 عام، فلماذا لا تصبح جزء غير مباشر من منظومة المياه والزراعة لغايات تحسين المحاصيل. وهي مستعملة في كثير من الدول بما في ذلك بعض الدول الإفريقية. فمتى نتحرك لإنشاء مركز وطني للإستمطار ونعطي الإهتمام للمناطق الأكثر احتياجا و خاصة في جنوب و شرق البلاد؟ الرابعة وهي التوسع المنتظم، طويل الأمد في مشاريع السدود الترابية والصغيرة. وهي دعوة تتكرر باستمرار منذ أكثر من 40 سنة.و لكن ما أنجز حتى الآن ضئيل للغاية ،لا يتناسب مع حجم المشكلة، ولا مع شدة الإحتياج لها، ولا مع الفرص الطبيعية الكثيرة ، ولا مع الإمكانات الهندسية المتاحة لدينا. ألا يستحق “البرنامج الوطني للحصاد المائي” أن يكون جزء من خطة الحكومة؟ و يمول من جزء من المنحة الخليجية بل من الموازنة العامة. والخامسة التعامل مع الجغرافيا باتجاه تعديل تأثيراتها. فبلادنا لا يوجد فيها مسطحات مائية داخلية باستثناء البحر الميت. في عصر التكنولوجيا المتقدمة والهندسة المتخصصة في المشاريع الضخمة،أصبح من الممكن عمليا إنشاء بحيرات اصطناعية و تغذيتها بالمياه من خلال ضخ مياه البحر. إنه من الممكن، بل و من الضروري إنشاء عدد من البحيرات الإصطناعية في جنوب و شرق البلاد و تغذيتها بمياه البحر الأحمر عبر خطوط من الأنابيب و تغذيها مضخات تعمل بالطاقة الشمسية. وهذا من شأنه تغيير المناخ و إتاحة الفرصة لبيئة أكثر ايجابية مع الماء والنبات والإنسان.
و أخيرا فإن أزمة المياه أخطر و أعقد من أن يترك حلها للزمن، فنكرر الخطأ الذي وقع في قطاع الطاقة حتى وصلنا إلى الحافة. إن تغييرا جذريا يمكن أن نحققه في أزمة المياه إذا خصصنا 30% مما يراد تخصيصه للمحطة النووية، التي لن تحل من مشاكلنا الكبرى إلا الشيء اليسير، و بكلفة و مخاطر لا قبل لنا بها. فهل نفكر في مستقبل المياه بطريقة أفضل ؟هذا هو التحدي.
د.ابراهيم بدران/أزمة المياه.. و تحديات المستقبل
13
المقالة السابقة