إن ما يجري في قطاع غزة الآن من إبادة جماعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى ومضمون ليس بمعزل عما جرى من قبل في العراق وليبيا وتونس واليمن من أحداث ويجري حاليًّا في سوريا، من حيث إن كل ذلك يتم وفق قاعدة الاختزال؛ أي اختزال الشعوب والأوطان في رأس هرم نظامها ورمز بقائها وأساس استمرارها.
ووفق هذا التقدير، حين أرادت القوى الامبريالية الاستعمارية الغربية غزو العراق وتدميره وإبادة شعبه ونهب ثرواته ارتكزت على قاعدة الاختزال باختزال العراق الحضارة والتاريخ والشعب المتحضر والمثقف والمتعلم في شخص الرئيس الراحل صدام حسين، فبنت دعايات وأكاذيب وفبركات كثيرة جدًّا لتشويه صورة العراق، وتقديمه للعالم “الحر” على أنه بلد عدواني مارق ويهدد جيرانه (والمقصود طبعًا هنا بالجيران كيان الاحتلال الصهيوني، وليس كما يتوهمه بعض السذج والحمقى من العرب)، ويهدد أوروبا بأسلحة دمار شامل في غضون خمس وأربعين دقيقة، وقد لعبت الآلة الإعلامية الغربية ـ الصهيونية دورًا كبيرًا في هذا الصدد، وكل ذلك من أجل محاولة بناء رأي عام شعبي وعالمي داعم لخطط التدخل والاحتلال للقوى الامبريالية الاستعمارية، لتكتب في العشرين من مارس عام 2003م نكبة عربية جديدة بعد نكبة فلسطين.
هذه القاعدة..أي قاعدة الاختزال، يبدو أنها راقت لقوى الاستعمار الغربية، لتستنسخها ضد ليبيا باختزال الدولة والشعب والثروات في شخص العقيد الراحل معمر القذافي، ليعلن الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي يوم السبت التاسع عشر من مارس عام 2011م في ختام القمة التي جمعته وقادة الاتحاد الأوروبي وممثلين عن جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي وأمين عام الأمم المتحدة بان كي مون ووزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون “البدء بتنفيذ القرار رقم 1973 الصادر عن مجلس الأمن الدولي وبطلب من جامعة الدول العربية “الذي يهدف ـ كما زعم ساركوزي ـ لوقف العنف ضد الشعب الليبي وبالتالي استخدام كافة الإجراءات اللازمة بما فيها الإجراءات العسكرية لفرض تنفيذ هذا القرار” الذي كتب نكبة عربية ثالثة بعد نكبتي فلسطين والعراق. أما في سوريا فلا يزال جاريًا استنساخ قاعدة الاختزال، حيث يواصل حلف التآمر والعدوان بأبواقه السياسية والإعلامية استهداف سوريا شعبًا وجيشًا وثروةً واستقرارًا ووحدةً، وإيهام الحمقى والسذج بأن هذا الاستهداف هو موجه لشخص الرئيس بشار الأسد وحكومته، ولم ينفك معشر المتآمرين عن صب الأكاذيب والفبركات والدعائيات لتبرير تحالفهم مع التنظيمات الإرهابية وتشريع العلاقة وتغطية الدعم غير المحدود من المال والسلاح والتدريب والتجنيد.
واليوم وما نراه من إرهاب دولة يمارسه كيان الاحتلال الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، تحت ذرائع وحجج واهية وكاذبة، هو الأساس الذي بنيت عليه قاعدة الاختزال في الدول العربية السابق ذكرها، حيث يتم تبرير هذا الإرهاب باختزاله في حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بأنها حركة إرهابية ومعرقلة لعودة فلسطين التاريخية إلى الشعب الفلسطيني، ولولا تبنيها خيارات مقاومة، لكان الشعب الفلسطيني يعيش الآن في حرية وبحبوحة من العيش والحياة الكريمة.
وفي الحقيقة أنه مثلما كان الهدف من اختزال العراق في شخص الرئيس الراحل صدام حسين هو تدميره ونهب ثرواته وتجريفه من كل شيء من قوته العسكرية بتفكيك جيشه وتدمير أسلحته، ومن ثروته العلمية الهائلة الماثلة في علمائه ورموزه في مختلف المجالات العلمية ومن أمنه واستقراره ووحدته، وشطبه من المعادلات الإقليمية وتغريبه عن جسمه العربي وتفتيته وتقسيمه على النحو الذي نراه الآن، ومثلما كان الهدف من اختزال ليبيا في شخص الراحل العقيد معمر القذافي هو الاستيلاء على ثروتها النفطية ـ كما أكد ذلك سيلفيو برلسكوني رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، وتقسيم ليبيا إلى أقاليم طائفية متناحرة، وكذلك الحال بالنسبة لسوريا حيث يراد إضعاف جيشها وتدمير قوته، وتقسيمها إلى كيانات طائفية عرقية متناحرة، وشطبها من معادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وبالتالي فإن الهدف من إرهاب الدولة الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني هو قطع رأس المقاومة الفلسطينية لكونه لا يزال يمثل عائقًا أمام مشروع التصفية للقضية الفلسطينية والمعطل لتحقق الأحلام التلمودية بقيام مستعمرة “إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات” التي يعمل ما يسمى تنظيم “داعش” و”جبهة النصرة” و”الجبهة الإسلامية” و”الجيش الحر” وغيرها من التنظيمات والعصابات الإرهابية على تذليل الصعوبات والمعوقات والقيام بالتمهيد اللازم لإعلان الحلم التلمودي الكبير وبدعم لافت وغير مسبوق من قبل بعض العرب وتركيا الحليف الاستراتيجي لكيان الاحتلال الصهيوني في المنطقة (والظاهرة الصوتية التي تملأ سماء تركيا الآن ليست جديدة؛ فهي في إطار بازار المزايدات الانتخابية التي تتخذ القضية الفلسطينية تجارة في مثل هذه المناسبات)، بالإضافة إلى الحلفاء الاستراتيجيين الغربيين. وما يجدر التأكيد عليه هنا، أن تفكيك الجيوش العربية وإضعافها وتدمير بنيتها التحتية ومصادر قوتها، وكسر المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية وتدمير بنيتها التحتية (كما قال مجرم الحرب بنيامين نتنياهو إن الهدف من إبادة المدنيين في قطاع غزة واعتقال مئات الأبرياء في الضفة الغربية هو تدمير البنية التحتية لحركة حماس) كان مخططًا من قبل لإيجاد البيئات الخصبة والحاضنة لبؤر الإرهاب في المنطقة المصنعة والمدعومة غربية وبتعاون عربي ـ إقليمي. وللمتابع أن يتخيل حال العراق لو كان الجيش العراقي لم يتم حله من قبل حاكم الاحتلال الأميركي بول بريمر، وأن يتخيل حال ليبيا الآن لو كان فيها جيش قوي وموحد، وفي المقابل أن يتخيل حال سوريا لو كان الجيش العربي السوري ضعيفًا، وحال المقاومة الفلسطينية واللبنانية لو كانت ضعيفة.
ولذلك ما يلفت الانتباه هو أن الجهود حول إرهاب الدولة الصهيوني ورد فعل المقاومة، تتركز على الهدنة التي تتمنع عن تحقيق القدر المطلوب من الحقوق للشعب الفلسطيني مقابل تلك الدماء الغزيرة المراقة ظلمًا وعدوانًا وإرهابًا، وأقله رفع الحصار الظالم ووقف العدوان الإرهابي وفتح المعابر، ما يعني أن الإطفائيين القادمين من أقاصي الدنيا يحاولون الالتقاء مع إطفائيين عرب لإيجاد مخرج ينقذون به كيان الاحتلال الصهيوني وتجنيبه التبعات العسكرية والسياسية، هذا من ناحيةـ ومن ناحية أخرى أن توفر الهدنة القدر اللازم لتحجيم المقاومة الفلسطينية، وهنا على المناضلين الشرفاء الفلسطينيين أن يحذروا أن المراد أن يؤكل ثورهم كما أكل الثور الأبيض.
خميس التوبي/ حين تختزل الشعوب والأوطان لتباد
20