في عام 1948 صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي أقرته الجمعية العامة، ولاقى هذا الإعلان ارتياحاً واستبشاراً كبيرين في العالم أجمع لما قد يكون لهذا الإعلان من دور وتأثير وسطوة قانونية لمنع الانتهاكات والقهر والقمع والظلم الذي يلاقيه الإنسان من أخيه الإنسان سواءً من أفراد أو مؤسسات أو دول، خاصة أن هذا الإعلان جاء بعد انتهاء حربين كونيتين راح ضحيتها عشرات الملايين من القتلى وأضعاف هذا الرقم من الجرحى والمشوهين والمرضى النفسانيين وغيرها من إهدار الحقوق في حياة الإنسان ومعيشته واستقراره.. فهل كان هذا الإعلان على قدر النصوص وديباجته؟
وفي الواقع إن هذا الإعلان لم يكن بذلك بالتأثير والأثر الذي توقعته الإنسانية في وقف الانتهاك لحقوق الإنسان في شتى الجوانب، ومنها ما يعيشه الشعب الفلسطيني الأعزل المستباح في غزة الذي يقتل كل يوم خاصة الأطفال والنساء والشيوخ الآمنين في بيوتهم، ناهيك عن الانتهاكات الكبيرة في الأراضي الفلسطيني المحتلة، وأيضا لم تتحقق الديمقراطية المنشودة، كما ينادي بها الغرب، ويطلب انتهاجه في المجتمعات العربية، ولكل المجتمعات الإنسانية، ولا الحرية تم تطبيقها على الجميع، ولا حقوق الإنسان تمتع بها الإنسان في ظل ازدواجية المعايير والمكاييل المتناقضة. فلم يكن لهذه الوثيقة الدولية العالمية ـ كما قيل ـ المعروفة باسم “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” الصادرة في باريس في العاشر من ديسمبر 1949 وأقرتها الجمعية العامة، والتي وصفت من قبل من أصدروها بأنها [ أضخم تحد لعصرنا الحديث ]، لكن هذا الإعلان وتلك الوثيقة المكتوبة لم يكن لها من العالمية الحقيقية إلا تسميتها الخارجية، لكنها في الواقع المعاش مجرد ديباجة إعلان بمفهومات تقليدية تكاد تكون محاولة لصياغة جديرة خالية من المضامين القوية الجادة في مسألة حقوق الإنسان، لأنها تفتقر إلى عنصر الإلزام ذلك أن هذا الإعلان جاء على النص الآتي:
[لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هي أساس الحرية والعدل والسلام في العالم].
[ولما كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني. وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع الفرد فيه بحرية القول والعقيدة. ويتحرر من الفزع والفاقة ].
[ولما كان من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان. لكيلا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم].
[ولما كانت شعوب الأمم المتحدة قد أكدت في الميثاق من جديد إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية وبكرامة الفرد ومكانته. وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية. وحزمت أمرها على أن تدفع بالرقي الاجتماعي قدما، وأن ترفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح].
[ولما كانت الدول الأعضاء قد تعهدت متعاونة من الأمم المتحدة بضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها…].
[ ولما كان للإدراك العام لهذه الحقوق والحريات الأهمية الكبرى للوفاء التام بهذا التعهد ].
[فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، على أنه المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه الشعوب والأمم كافة. حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع، واضعين هذا الإعلان نصب العين. إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية واتخاذ إجراءات مطردة. قومية وعالمية، لضمان الاعتراف بها ومراعاتها بصورة عالمية وفعالة بين الدول الأعضاء ذاتها وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانها].
فمن خلال هذه الفقرات المقتبسة من الإعلان العالمي نرى أنه لا يوجد له أي محتوى عالمي من كل وجه كما يشير د/ صبحي الصالح. فليس لنا أن نستغرب نفس الصفة “العالمية” عن الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن. برغم ورود كلمة “الإنسان” التي توحي وحدها بالتعميم والشمول. لكنها في الواقع لم تكن تزيد على نزعة ضمنية غير مصرح بها. وربما لم تكن طبيعة الأحداث لتسمح يومئذ بالتصريح العلني عنها. وإن نسبوا إلى دانتون قوله أمام الجمعية التأسيسية بعد سنة واحدة من ذلك الإعلان الفرنسي: “أما أنه ينبغي ألا يكون للقضية حدود غير حدود العالم ” قاصدا بذلك ” حرية الجنس البشري وسعادته ” وإن نسبوا أيضا إلى ديمولان قوله في الجمعية المذكورة: “فلنأمل أن ينمحي قريبا تقسيم العالم إلى دول حتى لا يبقى فيه إلا شعب واحد نسميه “الجنس البشري”. لكن هذه الإيماءة “الضمنية” التي حاولت على استحياء أن تصوغ مبادئ الحرية والإخاء والمساواة صياغة عالمية شاملة لم تحظ برضا بعض الساسة والمفكرين خارج فرنسا ذاتها. فهاجموا الإعلان الفرنسي وواضعيه. وزعموا أن مبادئ ذلك الإعلان، ولاسيَّما مبدأ المساواة، مستحيلة التطبيق. بل أسطورة من الأساطير”.
وهذا ما برز بعد ذلك من معايير ومقاييس متناقضة تجاه الجنس البشري. وكيف أن بعض الشعوب لا تحظى بهذه الحقوق، ولا يتم الاعتراف لها بأي صياغة قانونية وإنسانية لازمة من الحقوق عدا الكلام الفضفاض. والدليل على ذلك أن الإعلان العالمي المذكور آنفاً شجب العبودية والاستعمار، وأقر المساواة والعدل لكل بني البشر وحق كل شعب من الشعوب حق تقرير مصيره إلخ: لكن هذه المبادئ لم تجد التطبيق، فبعد جلاء الاستعمار البريطاني عن فلسطين حل محله الاستعمار الصهيوني، وبقيت دول عديدة تحت نير الاستعمار حتى ناضلت واستطاعت أن تنال استقلالها بالمقاومة وليس بالإعلان العالمي إياه!
والآن مع ظهور العولمة ومنظمة التجارة العالمية فإن حقوق الإنسان ستتراجع كثيراً، لأن القوى العظمى كما يقول د/علي بن حسين المحجوبي: “حكمت سيطرتها على الاقتصاد طبقا لمصالحها وعلى حساب “العالم الثالث” واضعه بذلك علاقات لا متكافئة بين الشمال والجنوب، فهي التي تحدد الأسعار العالمية لجميع المنتوجات وفقاً لما تقتضيه مصالحها. وقد نجم عن ذلك انخفاض متزايد في أسعار منتوجات العالم الثالث، مقارنة بأسعار منتجات القوى الكبرى، وبالتالي في اختلال التوازن في المبادلات التجارية بين الشمال والجنوب. ومثل هذا الوضع المتميز بعجز الميزان التجاري في جل بلدان العالم الثالث بجعل هذه البلدان الفتية تلجأ إلى الاقتراض لاستيراد التجهيزات اللازمة للنهوض باقتصادها، غير أن سياسة المديونية زادت في تبعية الجنوب الاقتصادية، وبالتالي السياسية للشمال، وأصبحت حاجزاً أمام تنمية بلدان العالم الثالث التي هي ملزمة بتخصيص جزء لا يستهان به من مواردها لاستيفاء ديونها”. فلن تحقق حقوق الإنسان في عصرنا الراهن إلا بإزالة الفكرة السلبية التي رهنت قضية الحقوق تخضع للتناقضات الفكرية والمعايير المزدوجة، وغياب العدل الذي هو التجسيد الحي لمسألة التطبيق الصحيح البعيد عن الأهواء والرغبات، والتي جعلت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مجرد صيغة فضفاضة غير ملزمة في الواقع المعاش، إذن قضية حقوق الإنسان فكرة رائدة إن طبقت وأصبحت ملزمة للجميع بلا محاباة وانحياز لطرف دون آخر وشعوب دون شعوب، ولن تنعم الإنسانية بالسلام والاستقرار والوئام إن بقيت حقوق الإنسان مهدرة ومتروكة وخاضعة للإيديولوجيات والأفكار والمحاور، فالبشرية على مدى قرنين لا تزال تعيش الاضطراب والتوتر والحروب الصغيرة والكبيرة بسبب المعايير الدولية المتناقضة، وغياب العدل القائم على الجميع، ولا يزال في ازدياد للأسف، وهانحن نشهد الانتهاكات الإسرائيلية في غزة هذه الأيام كل يوم، دون أن يكون هناك معايير عادلة لحقوق الإنسان الفلسطيني، وكرامته، وحياته، وعلى مرأى العالم وسمعه.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عبدالله العليان/حقوق الإنسان الفلسطيني والإعلان العالمي وتناقضاته!
22
المقالة السابقة