الحرب العدوانية الأخيرة على قطاع غزة هي أكثر من مُجرد جولة دموية جديدة، بل هي جزء من إستراتيجية (الردع) الدائمة التي يطلقها من حين لآخر صناع القرار السياسي والأمني والعسكري في الدولة العبرية.
حكومة نتانياهو قلقة، تريد تنفيذ عمل عسكري ضد القطاع منذ فترة وفق إستراتيجيتها الردعية، وفي نفس الوقت تخشى أخطار تلك العملية العسكرية، في ظل مناخ دولي لا يحبذها على الإطلاق، وهي تعرف (أي حكومة نتانياهو) أنها لا تملك الثقة الدولية السخية التي كانت لأرييل شارون أو الثقة غير المحدودة التي كانت لإيهود أولمرت. كذلك فإن نتانياهو يعرف أن من الصعب على زعيم يميني أن يقوم بمغامرة عسكرية واسعة، بالضبط مثلما هو صعب جداً على زعيم يساري صهيوني صنع السلام مع الفلسطينيين.
إن إسرائيل كمنظومة أيديولوجية سياسية حزبية عسكرية أمنية ومجتمعية وأخلاقية سائدة، في غير وارد لإنهاء احتلال مناطق العام 1967 بشكل كامل، كما أن اليمين الفاشي (ممثلاً بليبرمان) واليمين الاستيطاني (ممثلاً ببينت)، واليمين التوراتي المتطرف، يختلفون على أمور كثيرة. لكنهم في موقع الاتفاق تماماً بشأن الموضوع الفلسطيني.
كما أن إسرائيل، وتحت سمع العالم وبصره، تُنكّل بفلسطينيي الضفة المحتلة عام 1967، ومن طريق عمليات أمنية وعسكرية متدحرجة، مع استهداف قطاع غزة بغارات جوية متصاعدة، في مسعى منها إلى إعادة فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، وتدمير حكومة التوافق الوطني الفلسطيني المُتعثرة في انطلاقتها، وتلقى في تصعيدها العسكري غطاء أميركياً، في عملٍ مُبيّت له أهداف سياسية إستراتيجية تتجاوز تدفيع حركة «حماس» الثمن كمُتهمة بحادثة اختفاء ومقتل المستوطنين الثلاثة.
وعليه، نسمع الآن أصوات المتطرفين داخل حكومة نتانياهو الذين يدعون إلى العودة لنهج الاغتيالات، ومنهم صوت اليهودي العراقي الأصل (بنيامين بن إليعازر)، وهو الوزير اليميني المُتطرف المعروف بابتداعه فكرة التصفيات والاغتيالات منذ أن كان وزيراً للدفاع قبل عقد من الزمن، فقد تمت تصفية عشرات القادة والكوادر بأوامر مباشرة منه، وهو يدعو الآن إلى العودة إلى سياسة الاغتيالات والتصفيات لعموم الكوادر والقيادات السياسية الفلسطينية من مختلف الفصائل وخصوصاً حركتي «حماس» و»الجهاد الإسلامي»، بمن فيهم إسماعيل هنية.
إن الأوضاع في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967 باتت غير قابلة للاحتمال، فاستمرار جيش الاحتلال ومعه قطعان المستوطنين المسلحين بالاستهتار بحياة الفلسطينيين وإذلالهم وتعذيبهم وحرقهم واعتقالهم وقتلهم بدم بارد، بات يتطلب وقفة جادة، للبحث في الخيارات الفلسطينية المتعددة، حيث الرهان على العملية التفاوضية أمسى ضحكاً على الذقون.
كما أن سياسة الندب واللطم، والمناشدات، والتنديد، واستجلاب عطف العالم والمجتمع الدولي، غير كافية على الإطلاق، فالمطلوب من المستوى الرسمي الفلسطيني أداء سياسي آخر، يمتثل في الإقدام على خطوات مهمة، ومنها الإسراع في الانضمام والحصول على عضوية المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية، ومجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة وكل مؤسسات الأمم المتحدة. ويفترض هنا أيضاً أن تتوجه الجهود الرسمية العربية الى المجتمع الدولي من أجل دفعه لمغادرة سياسة الكيل بمكيالين واتخاذ خطوات عملية لتوفير الحماية اللازمة للشعب الفلسطيني في عموم الأرض المحتلة عام 1967.
قصارى القول، حتى لو انتهت العملية العسكرية الإسرائيلية الجارية ضد قطاع غزة، فإن الخيارات الوطنية الفلسطينية الجديدة أصبحت واجبة ولا بد منها، والشرط الضروري للانتقال بالحالة الفلسطينية نحو خيارات وطنية جديدة، يتطلب الانتقال من وضع التفكك والانقسام الى وضع التوحد واستجماع عناصر القوة الفلسطينية وأوراقها المتناثرة هنا وهناك. واستثمار الجو الفلسطيني الشعبي الموحد في الداخل والشتات، والعودة الى تصحيح العلاقات الفلسطينية الفلسطينية والعلاقات الفلسطينية العربية، وصولاً إلى مراكمة الوقائع والقوى التي تدفع نحو إنضاج الشروط لولادة خيارات وبدائل فلسطينية جديدة، تؤدي الى إعادة تصحيح مسارات الواقع الحالي في الداخل الفلسطيني وفي بناء إستراتيجيات جديدة لمواجهة الاحتلال وسياساته.
* كاتب فلسطيني
علي بدوان/الحرب على غزة أبعد من جولة عسكرية
15
المقالة السابقة