تعيش مدينة غزة هذه الأيام، حربا إسرائيلية مستمرة، استهدفت الجميع، دون التفريق بين المقاتلين، والمدنيين، وشملت حتى الأطفال الأبرياء، وهذا ليس جديدا على إسرائيل، والإشكالية أن العالم العربي والإسلامي، لم يتحرك حتى سياسيا، للتحرك لوقف العدوان الذي أصبح واقعا على الشعب الفلسطيني. وهذا يذكرنا بحرب إسرائيل على غزة عام 2008 وما نجم عنها من مجازر وحشية شملت النساء والأطفال والمدنيين في كل مناطق القطاع ولا تزال، ظهر الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في بعض المحطات الفضائية يبرر هذه الحرب بطريقة تبعث على الضحك أكثر مما تثير البكاء، عندما حولها من حرب محتل غاصب إلى حرب للدفاع عن النفس!! وهذا التبرير من بيريز ليس جديدا. فتاريخ هذا الجنرال ينضح بالأعمال الحربية على المدنيين، وتكفينا مذبحة قانا في جنوب لبنان التي يعتبر بطلها بلا منازع، ولا ننسى مذبحة مدرسة بحر البقر في مصر وقتل الأسرى في حرب 67 وقبلها مذبحة دير ياسين وغيرها من المذابح في تاريخ الحروب الإسرائيلية.
والآن يكرر بنيامين نتنياهو 2014، نفس النغمة السابقة في الهجوم على غزة والتهديد بتوسيعه هذه الأيام، وهو ما يعيد سيناريو المقولة الإسرائيلية، وهو قدرتها على الردع، لكنها تفشل في مخططاتها في كل مرة، كما فشلت في حربها على المقاومة في لبنان، والأخطر أن بقاء إسرائيل خارج معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية يطلق يدها، ويغل أيدي الآخرين من غير أن تتحمل وزر مخالفة أي قانون أو هيئة، وكذلك الإخلال بتوازن القوى إلى الصفر، وهو ما جعل الأمر برمته خطراً على الوجود العربي نفسه، ناهيك عن قضية الحق والمنطق والواقعية في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، ورغم ذلك كله تعتبر “إسرائيل” أن عملية السلام في الشرق الأوسط بإطارها الحالي لا تشكل ضمانة كافية لأمنها ومستقبل وجودها، ما دامت دول عربية وإسلامية عدة ترفض الاعتراف بإسرائيل، أو تمتلك سلاحاً نووياً أو هي مرشحة لامتلاكه، ولذلك تحاول إسرائيل منع أي دولة في المنطقة امتلاك قدرات نووية حتى ولو كانت سلمية!! ويشير تقرير يافي للدراسات الإستراتيجية بجامعة تل أبيب منذ سنوات إلى أن على إسرائيل وهي تخطو نحو السلام مع العرب، عليها أن تفكر في احتمالات الحرب.. ويستدعي هذا أن تعمل إسرائيل على تجريد العرب من قدراتهم الحربية بمنعهم من بناء جيوش حديثة، أو امتلاك أسلحة متطورة.. وإلى جانب ذلك لا يجوز أن تحول معاهدات مع العرب دون تطوير جيش الدفاع الإسرائيلي (!!)، ومواصلة توسيع الفجوة بين القوتين الإسرائيلية والعربية.
والأغرب أن البعض من المثقفين والكتاب صدق مقولات إن هناك نظاما دوليا تجري ولادته أو هو في مخاضه الأخير, وفي طور التشكيل, إلا أن الأقدار حالت دون ولادته, أو ربما كان حملا كاذبا, قصد به تبرير مسوغات المشاريع الإستراتيجية الجديدة التي يتحدث عنها بيريز كثيرا, لكن الواقع أنه لا يوجد نظام جديد بالمعنى المغاير للنظام الدولي القائم, إنما الذي يصاغ هو مفاهيم جديدة للمنطقة تصبح فيه لإسرائيل ما تريده وما لا تريده, حتى وإن كانت هذه الرغائب عسيرة الهضم, وثقيلة القول وجنونية المنطق ولا بأس أن تكون أيضا (إسرائيل) يدها مطلقة بعنجهية وغطرسة، كما يحدث الآن في غزة وما تفعله في المدنيين العزل مع موافقة وتبرير بعض الدول الكبرى. وعندما أعلن شيمون بيريز الحرب على لبنان في أواخر القرن الماضي بشعار “عناقيد الغضب” ظن البعض أن هذا الغضب الدامي سيكون محدودا ومناورة لاستعراض القوة أمام “أعداء السلام” للدخول في جحورهم ـ كما يعتقد بيريز ـ إلا أن الذي حدث هو أن الصورة الحقيقية لبيريز ظهرت على حقيقتها الكاملة, والذي حاول عبر أفكاره وأطروحاته في كتابه “الشرق الأوسط الجديد” يصورها بشكل مغاير كمنقذ وحمامة سلام للمنطقة, يصوغ نيابة عنا الأفكار الجديدة في الاقتصاد والثقافة والتنمية, ولننبذ الأفكار البالية العتيقة التي عفى عليها الزمن, مثل الهوية والعروبة والذاكرة التاريخية.
وهو ما عبر عنه في كتابه “معركة السلام” بقوله: قبل إرساء أساسيات السلام لهذا الشرق الأوسط الجديد, وكما نفعل مع أي مشروع للبناء, علينا أن ننظف الأرض أولا “تلك هي الحقيقة أو الصورة الناصعة لبيريز وأفكاره, وأهدافه الجلية بعد عناقيد غضبه الذي حطم فيه بسهولة ما كان يقوله ويتشدق به طوال السنوات الماضية “فالحكم على الشيء فرع عن تصوره” تلك المسلمة الحقيقية لتفسير نوايا بيريز للمنطقة بعد الذي حدث في لبنان وفي بلدة “قانا” في ذلك الوقت, عندما أظهرت التحقيقات أن الغارة كنت متعمدة وأن قادة إسرائيل يعلمون بمكان التجاء المواطنين اللبنانيين والذي هو أصلا مقرا للقوات الدولية.
والمضحك المبكي أن بيريز كان يقول بغير ذلك من باب الذكاء والمكر والخداع، ويصورها بالحكمة والاعتبارات الدبلوماسية يقول في خطاب له في الكنيست 29 /6/1982م: “علينا أن نتذكر أن الحرب في أيامنا هذه متشعبة، ففي ساحة المعارك لا توجد دبابات أو مدفعية فقط، بل هناك أيضاً عدسات تلفزيونية هي عين للعالم كله. علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن الدخول إلى المدن أو إلى أماكن مكتظة بالسكان أو قصفها تجب دراسته سبع مرات، ذلك أن الدمار في أيامنا هذه هو “دمار مصور ويحمل في ثناياه ثمناً باهظاً”!!
لكن الذي حدث في قانا ويحدث في غزة يخالف ما قاله في الكنيست .. لماذا؟ لأنها هي الصورة الواقعية لشخصيته بلا رتوش أو مساحيق.
فبيريز منذ صباه كان مليئاً بالأحلام والطموحات وبانتهازية لا حدود لها، وقد قال عنه إسحاق رابين في كتابه “سنوات الخدمة” (إنه متآمر لا يكل و ا يتعب من المؤامرات، وقال عنه آخرون.. إنه من ذلك الطراز من البشر الذين يقومون بأبشع التصرفات وهو يبتسم..
ومعروف عنه أنه يود أن يكون رجل سلام.. لكن هو الذي يحدد مسار هذا السلام وترتيباته، ولا يرفض أن يكون رجل حرب، وهو الجنرال السابق المعروف بالحماسة للعنف، لكنه يحددها عندما تدعو الضرورة أو الرغبة في الانتقام المترسب في النفس.. ويقال عنه: إنه يزاوج بين المبادئ، مبادئه هو الثابتة، وبين الانتهازية ديدنه، بين الوضوح والغموض.. يتقدم ليتراجع.. يجتمع ليقتحم.. يخرج من الغرفة حين يخيم الظلام في الخارج، وإذا رأى من يحمل مصباحاً التجأ إلى إشعال الحريق، ذلك هي طبيعته الكامنة، وبعد تسلم جنرال الحرب ارييل شارون الحكم بحكومات الطوارئ كما سميّت، وأسندت حقيبة وزارة الخارجية لشيمون بيريز، اعتقد بعض المراقبين ومنهم بعض المسؤولين في السلطة الفلسطينية أن شارون ربما سيتخذ قرارات مصيرية رغم تاريخه الإجرامي وتطرفه العسكري والسياسي وأن تسلم بيريز المهام الدبلوماسية هو أحد المؤشرات الجديدة، لكن الواقع يخالف هذا التصور، فتاريخ بيريز لا يؤهله لمثل هذه التوجهات إلا في جانب التلون السياسي والتظاهر من خلال العبارات المعسولة بأنه رجل سلام حقيقي في حزب العمل، فشيمون بيريز لا يختلف عن نتنياهو في الأفكار والتوجهات، لكن الأخير أكثر وضوحا وغطرسة من الأول، وهذا سمة الإسرائيليين في أدوارهم السياسية، في الكذب والمراوغة.
الهجمات الأخيرة على غزة، والتهديد بتوسيعها، لن تحقق أهدافها على المدى البعيد، والشعوب الساعية إلى استرداد حقوقها، لن ترغمها القوة المسلحة على الرضوخ إلى مطالب العدوان، لكن غرور القوة الإسرائيلية يغريها بالمغامرة في ظل الغطاء الأمريكي، الأسف لهذا العدوان الذي لن يحقق لإسرائيل السلام والأمن والاستقرار المنشود كما تريد.
عبدالله بن علي العليان/العدوان الإسرائيلي على غزة لن يحقق لها الأمن
14