عندما قررت إسرائيل إطلاق حملتها العسكرية على غزة الثلثاء الماضي، والتي أطلقت عليها بالعبرية اسم «عملية الجرف الصلب»، كانت تعرف أن يدها ستكون مطلقة من دون قيود تقريباً. فأميركا تعتبر حربها دفاعاً عن النفس، وروسيا ربما لا تعتبرها كذلك، لكنها مشغولة في أوكرانيا وفي سورية. أما العالم العربي فغارق في همّ حروب أهلية، بدأت ولا أحد يعرف كيف ومتى تنتهي؟ ما يهم إسرائيل أكثر من غيرها في هذا السياق، بعد أميركا، هي الحال العربية. والأرجح أن القيادة الإسرائيلية، قبل أن تطلق حربها على غزة، تداولت، ربما للمرة الألف، قدرة «المنظومة السياسية العربية» على استيعاب آلام الحرب وجروحها، وتبعاتها أيضاً. ربما قال أحد أفراد القيادة – أثناء النقاش في جدوى وتوقيت الحرب – إذا كانت المنظومة العربية قادرة على استيعاب الاستبداد السياسي وتبريره أحياناً، وهو استبداد يمتد عمره ليس عقوداً فقط، بل قروناً مديدة، فإنها قادرة على استيعاب ضغوط هذه الحرب، وتكاليفها السياسية. تجربتنا معهم تبرهن على ذلك، استوعبوا كل الحروب التي أطلقناها تجاههم. كانوا يخسرون كل شيء تقريباً. يخسرون المعركة والأرض، ويخسرون الموقف الدولي. لم ينتبهوا إلى أنهم كانوا يخسرون أنفسهم. ومع ذلك كانوا يرفضون وجود إسرائيل، ويعتبرونه أمراً غير قابل للنقاش. والمفاجئ أنه بعد الحرب اليتيمة التي أعلنوها علينا عام 1973 اعترف بعضهم (مصر والأردن ومنظمة التحرير) بنا من دون شروط مسبقة، واشترطت البقية انسحابنا للاعتراف بنا والتطبيع معنا.
يقول آخر: انظر إلى ما فعل صدام حسين بالعراقيين طوال أكثر من 35 عاماً من حكمه. كان الشعب العراقي مجبراً على التعايش معه، كان لا بد من أن يبدو أنه مع الرئيس. الدول العربية أيضاً كانت مجبرة على التعايش معه، لا تستطيع التفاوض ولا التصالح معه، ولا تستطيع مواجهته عسكرياً لاعتبارات عدة.
لم يكن ممكناً اقتلاع صدام ونظامه إلا بغزو أميركي وتدمير الدولة العراقية، ثم تنصيب طاقم حاكم جديد و«دولة جديدة» تحت فوهات آليات الجيش الأميركي. المدهش، يقول القائد الإسرائيلي، إن طاقم الحكم الجديد استأنف الاستبداد بقبعة الطائفة وخطابها، بدلاً من قبعة البعث وخطابه. يعلق آخر بأن هذا نتيجة طبيعية لتواطؤ أميركي – إيراني. أميركا تريد «الغالبية» ظناً منها أنها الحارس ضد الإرهاب. وإيران تريد «الغالبية» لأنها تشاركها الانتماء المذهبي. مجيء الغالبية الذي يعزز نفوذ إيران في العراق تحت غطاء الطائفة، ليس مفاجئاً، والحال كذلك تقول إنه بعد أكثر من 11 عاماً من الغزو الأميركي لا يزال العراق في لجة حروب أهلية تلد إحداها الأخرى. يلتفت طرف آخر في القيادة الإسرائيلية إلى صاحبه، مثنياً على ما يقول بالإشارة إلى ما يحدث في الجارة سورية. هنا رئيس شاب ورث الحكم عن أبيه في «جمهورية» لم تعرف إلا الانقلابات العسكرية حتى عام 1970. قبل أكثر من ثلاثة أعوام من الآن واجه الشاب ثورة شعبية. لم يتعامل معها إلا بما يعرفه، وبما سبق لوالده أن فعل عندما واجه شيئاً مشابهاً، نشر الجيش وإعلان الحرب على الشعب. وبالتالي إذا كان من حق بشار الأسد أن يقتل أكثر من 200 ألف سوري، وأن يهجّر أكثر من 9 ملايين سوري، بين الداخل والخارج، لأجل البقاء في الحكم، فلا أحد يملك حق الاعتراض على حقنا في الدفاع عن النفس أمام عدو لا ينتمي إلينا ولا ننتمي إليه. عندما نضطر إلى محاربة الفلسطينيين، فإننا نفعل ذلك ليس لأجل أن يبقى أحدنا في الحكم، وإنما لأجل أن يبقى الشعب اليهودي، وأن تبقى إسرائيل دولة يهودية.
هنا تدخل رئيس الحكومة قائلاً: خلاصة كلامكم أن العلاقة بين الحاكم والشعب في الدول العربية المجاورة هي علاقة صفرية، يستحيل أن يكون مكسب أيٍّ من طرفي العلاقة مكسباً للآخر، فمكاسب أحدهما تأتي عادة على حساب الآخر. وبما أنها كذلك، يضعف هذا النوع من العلاقة النظام السياسي، لأنه يخاف من الداخل، كما يخاف من الخارج، بل هو أكثر قدرة على استيعاب ضغوط الخارج من ضغوط الداخل. كانت هذه الحال من قبل، لكن الظروف العربية حالياً أكثر من مناسبة. قبل سبعينات القرن الماضي كانت كلفة الحرب على إسرائيل أكثر مما هي عليه الآن، وهذا ليس لأن النظام السياسي في سورية أو مصر مثلاً كان مختلفاً عما هو عليه الآن. كان الأمر كذلك لأن الحرب الباردة كانت توفر غطاء سياسياً للعلاقة الصفرية العربية بين الحكم والشعب.
مهما كان الحديث الذي دار داخل القيادة الإسرائيلية، فليس هناك معنى للسؤال: كيف بدأت الحرب الدائرة حالياً على غزة؟ هل بدأتها «حماس» أم إسرائيل؟ السؤال الأكثر تعبيراً عن سياق الصراع، والذي لا يمكن تفاديه: متى توقفت الحرب الإسرائيلية على كل الفلسطينيين، بما فيهم غزة؟ الحرب لا تكون دائماً بإطلاق القذائف والصواريخ وحمم القنابل العنقودية والفوسفورية؟ تكون أيضاً بالاغتيالات، وتهديم المنازل، وسرقة الأرض، والاستيطان، والاعتقالات، والتهجير القسري، والإذلال على نقاط التفتيش المنتشرة في كل الأراضي الفلسطينية. ثم بعد ذلك شيطنة الضحية بأنه إرهابي يرفض الاعتراف بحق قيام دولة يهودية. من هذه الزاوية لم تتوقف الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين منذ 1948 حتى هذه اللحظة. كل ما في الأمر أن هذه الحرب تأخذ أحياناً شكل الصراع المنخفض الحدة Low Intensity Conflict، وأحيانا أخرى تصبح حرباً عسكرية شاملة An All Out War. إسرائيل دائماً هي التي تقرر متى وكيف يكون الانتقال من هذه الحال إلى تلك.
ويبقى السؤال الأهم بعد ذلك: هل ستحقق إسرائيل هدفها؟ لكن هل هدفها وقف إطلاق الصواريخ عليها من غزة؟ هذه مجرد ذريعة مكشوفة، أم أن الهدف اقتلاع «حماس» من غزة كما اقتلعت منظمة التحرير من لبنان عام 1982؟ إسرائيل تعرف أنها لا تستطيع ذلك، وأن تبعات محاولتها في هذا الاتجاه ستكون أخطر مما تتصور، كما قال رئيس الوزراء البريطاني السابق ومندوب الرباعية الدولية توني بلير في حديثه لصحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية. «حماس» في أرضها وبين شعبها، تختلف عن منظمة التحرير في بيروت. من بين ما يريده نتانياهو من هذه الحرب ضرب المصالحة بين «فتح» و»حماس»، ولن يتمكن من تحقيق ذلك، فالحرب ستزيد من شعبية «حماس»، فضلاً عن أنها جعلت فك المصالحة بمثابة مخاطرة سياسية. يجب الاعتراف بأن إسرائيل نجحت في تحويل القضية الفلسطينية إلى مأزق عربي. لا يملك العرب، ومن بينهم الفلسطينيون، حلاً عسكرياً للصراع، ولا يملكون حمل إسرائيل على قبول حل سلمي ترفضه من حيث المبدأ. ولأنها ترفض السلام، فالقضية الفلسطينية باتت مأزقاً إسرائيلياً أيضاً. وحل هذا المأزق في تل أبيب، وليس في غزة أو رام الله.
خالد الدخيل/القضية التي تحولت إلى مأزق عربي
11