يروى أن جنكيز خان اعتلى منبر جامع سمرقند الكبير بعدما اجتاحها، وخطب في المسلمين قائلاً: «أنا ذنوبكم حلت عليكم، أنا غضب الله حل عليكم»، القصة نفسها تروى مرة أخرى عن حفيده هولاكو، ولكن من على منبر جامع في بغداد بعدما اجتاحها هو الآخر.
صحت الرواية أم لا، فإن انتشارها بين الرواة المسلمين الشعبيين، يُعبر عن حالة لا منطقية وصدمة عاشوها، وهم أهل حاضرة ودين وسياسة يرون همجاً من دون حاضرة أو دين يجتاحون أرضهم، يستبيحون دماءهم، يحرقون مدنهم، يفرضون عليهم شرعة متخلفة، فلم يجدوا سبباً لذلك غير أنها «ذنوبنا وغضب الله علينا»، تحليل مريح، ولكن ليتهم أضافوا «وأخطاءنا السياسية».
ربما حان الوقت أن نقول هذا ونصحح خطأ الأسلاف، ونحن نعيش صورة مشابهة. شباب غاضبون، بفكر وفهم متخلف للحياة والشريعة، يلغون تراث قرون، ومكاسب مفترضة لعصرنة لم تكتمل، تحولوا إلى ثوار وأمراء بل وخليفة يجتاحون رقعة واسعة من بلادنا، ومساحة أكبر من عقول أبنائنا، يلغون الحدود، يرفضون كل الأنظمة والتشريعات، يلقون علينا برؤيتهم في السياسة والحكم والحياة والمجتمع والاقتصاد على ورقتين أو ثلاث من مقاس A4، ولا خيار أمامك يا من دخلت ضمن رعايا أمير المؤمنين غير السمع والطاعة، لا مجال للمناقشة، لا يهمهم أن تكون وجيهاً في قومك، مهنياً متعلماً، أستاذاً جامعياً، شيخ قبيلة وعالم دين، سياسياً نشطاً وبرلمانياً، أو قاضياً، بل إن التوبة واجبة في حق الأخيرين الذين قبلوا يوماً الاحتكام للديموقراطية الكفرية والقوانين الوضعية، وكليهما من نواقض الإسلام، لا يشفع لك أنك قائد كتيبة مقاتلة شاركتهم «الفتح»، فعليكم جميعاً السمع والطاعة والبيعة لأمير المؤمنين، لن يدعو إلى مجلس تأسيسي، يجمع كل من سبق، للاتفاق والتوافق على نظام الحكم القادم، والدستور، والحقوق والواجبات، وتمثيل الشعب، والفصل بين السلطات، لا حاجة للاستمرار، فلقد غضب أبوعبيدة الجزراوي، فكل ما سبق كفر وتغريب، نحن مرجعنا الكتاب والسنّة ولا شيء غيرهما، أي كتاب وسنة يا أخي، القرآن حمال أوجه، والأمة تعددت مذاهبها واجتهاداتها بعد 1400 عام ولا بد من أن نأخذ هذا في الحساب.. يصرخ قائلاً: «اسكت، مرجعنا الكتاب والسنّة وكفى، لا مذهبية في الإسلام والقرآن بيننا» ويلقي بكتيب من 40 صفحة صارخاً، وتفريغ لخطبة أمير المؤمنين الأخيرة «كل ما تريده هنا».
صورة جنكيز خان من على المنبر، والحوار السابق مع الجزراوي رمزية مقلقة لمثقف سعودي يحتسي قهوة ما بعد الإفطار في الرياض، أو طبيب مغربي بعيد في الرباط، ولكنه واقع يعيشه صديقي الموصلي الذي تحدثت له أمس، إنه مسؤول حكومي على مصلحة لا يريدني تحديدها، فهو خائف، قلق، يقول إن حالهم آمنة، فاختصر لي «داعش» بقوله: «إنهم طيبون طالما لم تختلف معهم»، ولكنه لم يهضم بعد أنه بات يتلقى التوجيهات من شاب لم يكمل تعليمه كان يعرفه يوماً صعلوكاً شرساً في الحي المجاور، بقي معي بعدما أنهيت مكالمتنا المقتضبة قوله من حديثنا «شلون حصل هذا؟ ما الذي أصاب حتى ننتكس إلى هذا الحد؟».
بعد 11 ايلول (سبتمبر) كتب المستشرق الشهير الذي لا نحبه، برنارد لويس كتابه المهم «ما الخطأ الذي حصل؟ الصدام بين الإسلام والمعاصرة في الشرق الأوسط» حاول فيه أن يجيب عن سؤال ما الذي أدى بالمسلمين إلى حالة التخلف عن الحضارة الغربية بعدما كانوا رواداً في الحضارة والعلوم والإنجازات البشرية، وعاد يبحث في أسباب فشل الدولة العثمانية في قرنها الأخير من إتمام مشاريع عدة للعصرنة، على رغم أنها شرعت فيها، داعبت العصرنة ولكن لم تأخذ بكل أسبابها، ولكن لعل أهم نتائج بحثه هو اعتقاده أن المسلمين اشتغلوا أكثر بالبحث عمن فعل هذا بهم أكثر من انشغالهم بماذا فعلنا بأنفسنا.
ولأننا لا نحب برنارد لويس، لم نهتم كثيراً بكتابه، ولم نعترف بأن ثمة خطأ ما هائلاً يعيش في داخلنا، لم ننتبه إلى عالنا العربي كمنسأة نبي الله سليمان، أكلتها العتة من الداخل فاهترأت، فلم ينتبه أحد لاهترائها وموت صاحبها إلا وقد خرّ على الأرض هاوياً، دول وأنظمة بدت مهابة قوية، جمعت المال والنفط والسلاح والزعيم والأمن والإعلام والمثقفين وعلماء الدين الذين يؤكدون أننا من انتصار إلى انتصار، ومن إنجاز إلى آخر، عراق صدام حسين، وسورية الأسدين، ومصر مبارك، وليبيا القذافي، ويمن علي عبدالله صالح، عاشت أعواماً طويلة مهترئة من الداخل، تعيش بإرهاب المخابرات والأمن وكذب الإعلام، لا بساسة أو سياسة، خبراء الاقتصاد آخر من يستمع إليهم الزعيم، خطط التنمية تكتب ولا يقرأها أحد ناهيك أن ينفذها، التعليم يتردى ومعه المجتمع والقيم ولا أحد يهتم فكان انهيارها حتمياً ومستحقاً، لا مؤامرة خارجية، وإنما أخطاء 60 عاماً بدأت يوم قاد عسكري أرعن جاهل أول انقلاب، أو لعلها أخطاء 100 عام منذ أن شكّل الاستعمار عالماً عربياً مشوهاً، المهم أنها أخطاء تراكمت طبقات بعضها فوق بعض، فكان طبيعياً أن ينهار كامل الدار لحظة إطلاق أول رصاصة على عراق صدام، وأول رسالة «فيسبوك» على بقية الأنظمة المهترئة.
حان الوقت أن نسأل «ما الخطأ الذي حصل؟» ولنبحث في داخلنا، أما ذاك الذي يبحث عن مؤامرة أجنبية فهو يهرب من الحقيقة، إن الأخطاء فينا فما هي؟ هل هو الاستبداد المغلف بتلك الكلمة الخادعة «الاستقرار»؟ أم أنها نظرية المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري «الحرص على الغنيمة»، فأصبح الزعيم العربي ومن حوله ينظرون إلى الوطن كغنيمة عابرة، مثل الذي يذبح وزته «وطنه» ليحصل على كل الذهب؟ هل هي الطبقية التي نرفض أن تعترف بها ولكن نعيشها كل يوم في معظم مجتمعاتنا العربية، نراها في نظرة الحاكم نحو «الشعب الآخر» هو والطبقة المستفيدة من حوله من أثرياء ومثقفين وشيوخ دين بل حتى طبقة وسطى خادمة لمن أعلى منها، فيرون فيمن دونهم مجرد رعاع يتمايزون عنهم حتى ثقافياً، لا يستحقون ديموقراطية ولا حق الاختيار والرأي لأنهم لا يحسنون الاختيار ويجب تعليمهم وتحسين وعيهم أولاً؟ هل هو الجمود في الدين وفرض مدرسة فقهية فضّلها الحاكم نفضلها لأنها توفّر له فقه السمع والطاعة، ولا يكترث بعجزها عن مواكبة العصر والاجتهاد، بينما تتسرب من حولنا أشكال العصرنة المادية لا الفكرية، فتقاطعت العصرنة مع الجمود وانفجرت في ظاهرة «القاعدة» و«داعش». أم أن الوقت تأخر على هذا السؤال، ودورة الخراب والانهيار بدأت ولا راد لقضاء الله، فلا أحد يريد الاعتراف بأن هناك خطأ حصل أو يحصل، انظروا إلى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ومعه بقية ساسة العراق كنموذج لهذه الحالة، عجزوا عن إدراك أن وطنهم ينهار فتلاسنوا يوم افتتاح برلمانهم فتأجلت الجلسة أسبوعاً، ومضى المالكي يتناحر حتى مع شيعته، المالكي وساسة العراق مجرد نموذج لنا جميعاً، لا أحد يريد أن يعترف بأن خطأ حصل، في هذه الأثناء الوحيد الذي يتحرك بديناميكية هو الطوفان والتاريخ.
جمال خاشقجي/ما الخطأ الذي أوصلنا إلى هذه الحالة؟
26
المقالة السابقة