رغم التغيرات التي تتوالى يوماً بعد يوم، والتحرك الحثيث نحو الانفتاح والمشاركة، لازال البعض يعيش في إطار المفاهيم السلطوية التقليدية التي أصبحت جزءً من الماضي. مفاهيم شعارها ” الحكومة هي الدولة وكل معارضة لرأي تقوله الحكومة أو مشروع تزمع السير فيه هو معارضة للدولة. “. ولعل ما يجري في المنطقة العربية يبرهن بكل وضوح أن هذا الخلط المتعمد، بين الحكومة وقراراتها وبين الدولة، أي الأرض الوطن والمجتمع والنظام والقانون والمؤسسات، هذا الخلط هو الذي أوصل المنطقة العربية إلى ما هي فيه الآن.
تناولت الندوة التي عقدتها جمعية الشفافية الأردنية يوم 21/6/2014 قطاع الطاقة في الأردن. تحدث فيها وزير الطاقة والمدير العام السابق لسلطة المصادر الطبيعية “السابقة”، وأنا كنت من المتحدثين. وفي اليوم التالي جاءت التغطية الإعلامية للندوة مثيرة للانتباه أولاً : نفس النص تقريبا لجميع الصحف. ثانياً : إغفال الجزء الأكبر من محاضرتي عن آفاق الطاقة في الأردن واختصاره بثلاث جمل فقط هي معارضة مشروع الطاقة النووية و بشكل مجتزأ جدا . وثالثاً : التوسع الكامل فيما تحدث فيه الوزير، وليس من اعتراض على ذلك، وهذا حقه و حق الحكومة تماما . ورابعاً : إغفال المداخلات الهامة التي أبداها الحضور ومنهم النواب ورئيس لجنة الطاقة في مجلس النواب وعدد من الخبراء المشاركين.
والسؤال هل يعقل أن المسئول حتى اليوم لا يميز بين معارضة مشروع فيه أخطاء وأخطار ،محتملة إن لم تكن مؤكدة، وبين معارضة الدولة ؟
هل يعقل أن المسئول لازال يصر على اطلاع الرأي العام على جزء من الحقيقة وكما يريدها هو، أو الدوائر ذات العلاقة، ولا يطلع الشعب على الصورة بكاملها ؟ هل يعقل أن الملك يتحدث عن الشفافية والديمقراطية واحترام الرأي العام ومشاركته في صنع القرار، في حين لا يسمح المسئول أن يصل للرأي العام إلا الكلمات والعبارات التي يراد له أن يقرأها؟ هل يعقل أننا لا نستطيع مواجهة الرأي بالرأي، ،والعلم بالعلم ،فنلجأ إلى الرقابة والى الخبر المجزوء الجاهــز ؟
هل يعقل أننا لا ندرك أن العلم والتكنولوجيا وتواصل العالم قد جعل أي سر مستحيلاً، و كل معلومة أو خبر أو محاضرة أو تصريح متاح للناس من خلال الوسائل التكنولوجية الحديثة ؟ ألا ندرك أن اكتساب ثقة المواطن من خلال الحقائق، وجسر الفجوة بينه وبين الدولة، وهنا تكمن مصلحة الدولة والمواطن، لا يتأتى إلا من خلال المصارحة والمكاشفة والشفافية.
لقد قلنا أكثر من مرة، ولا نزال نقول، ومعنا شرائح كثيرة من الشعب الأردني، أننا مع اكتساب الخبرة والتكنولوجيا النووية وغير النووية ومع كل تقدم لبلدنا. لكن المشكلة أن المشروع النووي الذي تقوده هيئة الطاقة النووية فيه أخطاء إستراتيجية، ومخاطر جسيمة، ومعلومات غير صحيحة،وأفكار تبسيطية مجزوءة لا بد من التعامل معها وتصحيحها قبل كل شئ. أولها التسرع في القرار و المكان والزمان والتكنولوجيا و الإتفاقيات و الأثر البيئي ومتطلبات الأمان. وثانيها عدم دقة المعلومات إلى درجة تضليل الرأي العام. فيوماً نسمع أن اليورانيوم يتواجد بوفرة هائلة ستدر مليار ونصف دولار سنوياً و هو غير صحيح،و يوماً نسمع عن مفاعل (1000) ميغاواط وأخر عن (350) وعن مجموعة مفاعلات (180) ميغا واط وهو خلط غير مفهوم .ويوما نسمع عن تصدير الكهرباء إلى دول المنطقة، و أن المحطة النووية ستحل مشكلة الطاقة برمتها الخ. وثالثها عدم وجود إجابات مقنعة حول المخاطر الكبرى و في مقدمتها كلفة الحادثة النووية الكبيرة و من يتحملها، و توفر مياه للتعامل مع المفاعل في حالة الكارثة، و متطلبات الإخلاء، وكلفة فكفكة المفاعل، و مكان دفن النفايات النووية و كلفتها ،الخ .
فهل المطلوب ، حتى يكون المواطن صالحا و حتى لا يعاقب بالتعتيم الإعلامي، أن يغض النظر عن كل ذلك؟ ألا نتذكر سد الكرامة الذي تم إنشاؤه بكلفة 57 مليون دينارا رغم توصية الخبراء الأردنيين والخبراء الدوليين بعدم جدواه، فتحول إلى مكرهة بيئية؟
إذا كان القرار سياسياً، فليكن، ونحن مع دولتنا دائماً. ولكن الواجب الوطني يحتم أن نجعل القرار مستكملاً شروط النجاح. حيث أن الجوانب التكنولوجية والاقتصادية والأمن والأمان و السلامة العامة والحفاظ على سلامة البيئة جزء أساسيً في الموضوع. أما إذا كان القرار علمياً واقتصادياً و تكنولوجيا فليحاور أصحاب المشروع من ينتقدونهم، و ليجيبوا على الأسئلة الغامضة.
إن صناعة الطاقة النووية ليست ككل الصناعات.ففيها من الأخطار ما يفوق أي صناعة على الإطلاق. وعلى مستوى العالم أصبحت محل خلاف في الرأي حتى في الدول المتقدمة صناعياً وتكنولوجيا مثل الولايات المتحدة واليابان وسويسرا و ألمانيا وفرنسا الخ. فكيف نتوقع أن يكون الحال في بلد نام مثل الأردن لا يملك المال ولا التكنولوجيا ولا حتى المياه اللازمة للتبريد. لقد اقتنعت الدولة ألألمانية بوجهة نظر معارضي الطاقة النووية فأغلقت حتى اليوم 8 محطات و ستغلق ما تبقى مع حلول عام 2022. ولم تعتم الحكومة أو تمنع نشر آرائهم واطلاع الجمهور عليها. ولم تتقاول مع أحد للكتابة و الترويج عن فضائل المشروع النووي . وهكذا تفعل فرنسا و اليابان وغيرهما ، فلا أحد يتستر على الأخطار والأخطاء،ولا تستطيع دولة إهمال رأي العلماء والخبراء ، ولا تستطيع القفز فوق البدائل الأكثر جدوى.
هل موقع المحطة مشكلة؟ يتساءل أحد الكتاب، وليس الخبراء، باستهانة . نعم انه مشكلة كبرى. والمكان الخطأ كلفته باهظة جداً لا يحتملها الاقتصاد الأردني أبدا. هل يمكن في بلد محدود الإمكانات |أن نهمل موضوع الأمان النووي واحتمال الكوارث النووية؟ إلى الدرجة التي ذهب إليها نفس الكاتب بقوله: مشكلة الأمان ؟ “الأمان بالله”. هل يريد هذا الكاتب الذي يعتبر موقع المفاعل مسألة لا تستحق الخوف والحذر أن يقبل الوطن والمواطن كل الأخطاء و الأخطار و التسرع ثم يقال له :الأمان بالله؟ . أين العلم وأين العقل و أين الحكمة التي دعا إليها الله؟ وأين الحسابات الدقيقة و أين المسؤولية الوطنية والإنسانية؟. ثم يقول الكاتب “جميع المشاريع تحمل مخاطر” . هكذا، وببساطة، و كأن المفاعل النووي مثل فرن الغاز أو محطة بنزين، كلها فيها مخاطر. أي مخاطر على المواطن أن يستعد لها؟. و أي استهانة بالأرواح والعقول و الأوطان..
إن المحطة النووية لو تم تنفيذها غداً أو بعد (10) سنوات، سوف لن تتعدى عائداتها الصافية (14%) من الفاتورة النفطية، حتى لو استثمرت فيها كل الأموال. هل نهمل المصادر الطبيعية التي لدينا من صخر زيتي و طاقة شمسية و طاقة رياح و هي تحت سيادتنا ولن تكلفنا من الاستثمار إلا الممكن؟ هل نهمل قطاع النقل الذي يستهلك أكثر من 40% من الفاتورة؟ هل نهمل الـ (86%) و نغني لـ (14%) بكل ما فيها من مخاطر و أخطاء؟ هل ستصبح الكهرباء رخيصة ؟كلا. فالكلفة هي كلفة الخليط. فهل المطلوب أن نقفز عن كل ذلك وغيره الكثير و نترك المستقبل يواجه المشكلات كما تقع ؟ هذه حقائق من حق المواطن أن يطلع عليها مفصلة ومسهبة و غير مجتزأة، و من حقه أن ينتظر الإجابة من العلماء والخبراء والحكماء، ومن حقه أن يشارك في القرار. فهذا جزء من العرف الدولي و من المسؤولية الوطنية.