توجد نظريتان متضاربتان حول ما ستؤدي إليه التطورات الأخيرة في العراق من تأثير أولاً على مستقبل الدور الإقليمي لإيران بدءاً من العراق مروراً بسورية وصولاً إلى لبنان، وثانياً على الداخل الإيراني في المعركة بين صفوف الاعتدال وقوى التشدد والتطرف، وثالثاً على المفاوضات النووية 5 + 1 والعلاقات الثنائية الأميركية – الإيرانية. إحدى النظريتين تتوقع إصرار «الحرس الثوري» الإيراني على عدم خسارة موقع قدمه في العراق وسورية ولبنان. بالتالي، فإنه سيضاعف عزمه على محاربة القوى المتعاضدة ضد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وسيعزز تمسكه بالرئيس السوري بشار الأسد، وسيستعين بـ «حزب الله» لإلحاق الهزيمة بـ «داعش» مهما كلّف الأمر. كما أنه سيمنع قوى الاعتدال داخل إيران من التنازل أمام المطالب الأميركية للتخلص من المالكي إنقاذاً للمفاوضات النووية وللعلاقة الثنائية المبتغاة بين الرئيس باراك أوباما والرئيس حسن روحاني. النظرية الأخرى ترى أولاً، أن الانتفاضة العراقية ستؤدي إلى إلحاق الهزيمة بمشروع «الهلال الشيعي» نظراً إلى استيلاء القوى السنّية على مواقع رئيسية تشمل الحدود والمعابر إلى سورية. وثانياً، أنها ستسفر عن التخلص من نوري المالكي بصورة أو بأخرى، يليه بشار الأسد وربما أيضاً قيادة «حزب الله». وثالثاً، أن جديداً سينتج من الانتفاضة العراقية لجهة حديث إقليمي جديد يشمل السعودية وقوى الاعتدال الإيراني يحتوي التشنّج المذهبي ويتفادى حروباً سنّية – شيعية. ورابعاً، إن كل ذلك سيخدم المفاوضات النووية بين الغرب وإيران وسيساعد باراك أوباما في نسج الإصلاح النوعي في العلاقات الأميركية – الإيرانية. إلقاء نظرة على التطورات العراقية المذهلة خلال الأيام العشرة الماضية قد يساعد في تشريح الحدث وقراءة أبعاده عما إذا دخلت في نطاق نظرية التصعيد والتقسيم والحروب أو في نظرية الاحتواء وتصحيح مسارات خاطئة.
ظاهرياً، هناك اليوم تلاق أميركي – إيراني في دعم الحكومة العراقية والجيش العراقي في وجه تنظبم «داعش» الذي طُبِعَ اسمه في البداية على الانتفاضة العراقية. تلك الانتفاضة تضم عشرة تنظيمات عراقية على الأقل إلى جانب «الصحوات» وفورة تلقائية ضد سياسة الإقصاء التي مارسها المالكي ضد سنّة العراق لتهميشهم فيما كان يستفرد بالسلطة. لذلك، يُستهجن ذلك التلاقي بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية لدرجة ظهورهما حليفين في العراق يدعمان المالكي في مواجهة التهديد الذي يشكله «داعش».
عند التمعّن في المواقف الأميركية والإيرانية، لا سيما أمام أنباء تقدم الطرف الأميركي إلى الطرف الإيراني بطلب تغيير المالكي، يبدو الأمر مختلفاً قليلاً.
فهناك مؤشرات إلى تلاقٍ بين الرئيس باراك أوباما والرئيس حسن روحاني قوامه ضرورة إلزام المالكي العمل مع السنّة العرب والأكراد لتصحيح الأوضاع والاعوجاج الذي رافقها. رد المالكي عليهما أن لا مجال للتفاهم مع السنّة العرب والأكراد الآن وأن الرد يجب أن يكون عسكرياً وحاسماً. داخل العراق هناك من الشيعة من يعارض المالكي في اتهامه الأكراد بدعم «داعش» ويعتبره خطأ استراتيجياً. وهناك أيضاً من يلومه على الاستهانة باستعداد سنّة العراق لإنشاء مجالس صحوة ضد «داعش» مشابهة لمجلس «الصحوة» عام 2007 التي ألحقت الهزيمة بـ «القاعدة».
قد تصل الأمور بأوباما وروحاني إلى العمل معاً للتخلص من المالكي، وإيجاد بديل عنه وقد يجدان أنهما في معركة إطاحة المالكي ضد قوى «الحرس الثوري» وقائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني الذي أسرع إلى العراق لدعم المالكي.
إدارة أوباما لن تستطيع مد الدعم إلى المالكي طالما هو ماضٍ في تعنته، ليس فقط بسبب ديكتاتوريته وتحوّله طاغية تشبه صدام حسين، وإنما أيضاً لأن خضوع أوباما أمام قوى التطرّف الإيراني وإذعانه لبقاء المالكي سيشكل مساهمة مباشرة في إذكاء الحرب المذهبية داخل العراق وفي جيرته.
ثم إن أي تمسك لأوباما بالمالكي الآن سيؤدي إلى عودة التوتر مع الدول الخليجية وبالذات السعودية، لا سيما أنه يعني عملياً التحالف مع قوى التطرف الإيراني في العراق. هذا إضافة إلى أن أي تحالف أميركي – إيراني اليوم في العراق، لن يبدو فقط مستهجناً وإنما لن يكون مقبولاً لدى بعض الصفوف الأميركية لأنه يتزامن مع المفاوضات النووية التي تحتاج الحزم وليس الاضطرار إلى الإذعان – أقله في رأي هذه الصفوف.
في الوقت ذاته، برزت أخيراً بوادر الخلاف بين المقاتلين السنّة و «داعش» الذي سيكون مرفوضاً أكثر فأكثر من جانب البيئة العراقية السنّية الرافضة تطرفه. هذا الخلاف يمكِّن إدارة أوباما من التمييز بين إصرارها على هزم «داعش» وبين رغبتها في تشجيع نمط «الصحوات» لمحاربة التطرف والإرهاب السنّي.
هنا يحتاج باراك أوباما إلى سياسة دقيقة مع الدول الخليجية العربية، لأن هذه الدول لن تتبنى دعم «داعش» وأمثاله خوفاً من خروج الأمور عن قدرتها وفلتان هذه التنظيمات في المنطقة بما قد يطاولها. إنما هذه الدول لن تقف متفرجة على معركة العراق الجديدة لإخراج العراق من تسلّط المالكي وتخفيف الهيمنة الإيرانية عليه. على أوباما أن يسير على الحبل المشدود كي لا يقع في معسكَرٍ معيّن ويبدو طرفاً في هذه المعركة المهمة على العراق.
المسؤولون الأميركيون والإيرانيون أجروا محادثات مباشرة على هامش المفاوضات حول الملف النووي في فيينا وناقشوا، في خطوة نادرة، التطورات العراقية و «الاهتمام المشترك» لواشنطن وطهران ضد تنظيم «داعش»، كما صرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية ماري هارف. يسرع المسؤولون الأميركيون إلى القول إنهم «منفتحون على تحرك مع الإيرانيين، تماماً كما مع أطراف إقليميين آخرين، في مواجهة التهديد الذي يشكله «داعش» على العراق»، وذلك كي يرطّبوا الانطباع بأن إدارة أوباما لزّمت إيران إدارة العراق والفوز بسورية والسيطرة على لبنان.
البعض يرى أن الحدث العراقي فضح العجز الإيراني أمام زلزال سقوط المدن العراقية وانهيار الجيش العراقي إزاء الانتفاضة السنّية. يرى أن الآلة العسكرية الإيرانية عاجزة كذلك عن الانتصار الحقيقي في سورية مهما بدا، وأن إيران تنجز ما تريده بما في ذلك إبقاء بشار الأسد رئيساً للبلاد. ترى أن الارتباك السياسي الداخلي والإقليمي واضح على القيادات الإيرانية المختلفة، لا سيما أمام اقتراب موعد 20 تموز (يوليو) في المفاوضات النووية.
قد تكون مفاجأة الزلزال العراقي أسوأ تطور بالنسبة إلى إيران، لأنها كانت تفاوض نووياً من موقع القوة، وفجأة، إنها في موقع هشّ يكشف ضعفها في العراق وكذلك سورية. فلو كان الحدث العراقي عبارة عن معركة شنّها تنظيم «داعش» – كما قيل في البداية – لوقع ذلك في مصلحة إيران ومفاوضاتها النووية مع الغرب. أما وقد تبيَّن أن «داعش» قد يكون مجرد طرفٍ بدأت القوى الأخرى بتهميشه، فإن الوضع بات عكس ما كان عليه وقد ينعكس سلباً على الجانب الإيراني.
الولايات المتحدة ستستفيد من إيران أضعف في العراق وسورية لتحصل على ما تريده في مفاوضات الملف النووي. والولايات المتحدة لن تتمكن من التحالف مع إيران في مواجهة «داعش» و «القاعدة» وأمثالهما لأن القضاء عليهما لن يأتي سوى من طريق «صحوات» سنيّة وليس من طريق استفزاز السنّة وتهميشهم، أو من طريق التحالف مع بشار الأسد في سورية.
عراقياً، الأرجح أن يتمترس نوري المالكي في تعنته ويرفض الحلول السياسية وهذا سيؤدي إلى تفاقم المعارك العسكرية والمذهبية. إيران قادرة أن تمون على المالكي. فإذا قرر تيار «الحرس الثوري» أن هذه معركته، فلن تتخلى إيران عن المالكي ولن تتراجع أمام الانتفاضة السنّية. أما إذا انتصر تيار حسن روحاني واتخذت إيران قرار استبدال المالكي إنقاذاً للمفاوضات النووية – التي تؤدي إلى رفع العقوبات تدريجاً عن إيران وترسم مساراً تهادنياً رسمياً مع الولايات المتحدة – عندئذ قد تبرز خريطة طريق جديدة للعراق أساسها الأقاليم وليس التقسيم.
سورياً، يستفيق بشار الأسد على واقع لم يكن يتصوره عندما رقد مرتاحاً إلى انتصاراته المرحلية، لا سيما إعادة انتخابه رئيساً. فالمعابر إلى العراق فائقة الأهمية وهي تهدد تلك الانتصارات الوهمية لأن وقوعها في أيادي السنّة الغاضبين في العراق وسورية سيبدّل المعادلات العسكرية في الساحة السورية.
لبنانياً، لن يكون سهلاً على «حزب الله» دخول العراق طرفاً عسكرياً في معركته لحساب إيران لأن العراق ليس سورية، ولأن الجغرافيا تجعل المهمة أصعب وتعرّض مواقع «حزب الله» في لبنان للهشاشة والانتقامات المتعددة. سيبقى «حزب الله» متأهباً في غرفة العمليات الإيرانية لكنه قد يضطر لتحالفات تحمي ظهره لبنانياً. لذلك، إنه يحاول التوافق مع «تيار المستقبل» للعمل معاً وأمنيّاً على إبعاد أمثال «داعش» عن لبنان مقابل تنازلات سياسية. فقيادة «حزب الله» تدرك أن «تيار المستقبل» يشبه «الصحوات» العراقية في ردع التنظيمات المتطرفة أقله لما يمثله من قيادة سنّية تساعد في الردع.
كل شيء وارد في هذه الحقبة من مسيرة التغيير في المنطقة العربية وفي الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتركيا. الأرجح ألا تتعطل المفاوضات النووية بغض النظر عما إذا تم التوصل إلى اتفاق نهائي في 20 تموز أو لاحقاً في الخريف. فلقد تم اتخاذ قرار أميركي بإنجاح تلك المفاوضات لأن باراك أوباما يريد للاتفاق أن يتوّج مسيرته التاريخية. الغامض يدخل في خانة الطموحات الإيرانية الإقليمية وموقف باراك أوباما منها. الواضح أن إيران كانت بالأمس القريب تفاوض من موقع القوة، وباتت بعد زلزال العراق تفاوض وهي مرتبكة.