ثورة المظلومين والمهمشين في الموصل وراءها تنظيم «داعش»! هكذا يروج الإعلام هذه الأيام … وكذلك الذين تصدوا للتهجير المنهجي في ديالى هم أعضاء في تنظيم «داعش»!، وهذا التحليل يسري على احداث صلاح الدين وكركوك وبغداد، وقد سبق اتهام عشائرنا الثائرة في الأنبار بأنها الوجه الآخر لـ «داعش»! وحتى تكتمل فصول الرواية لا بد من الادعاء بأن قوات نوري المالكي على درجة عالية من المهنية القتالية والصدقية فهي (كما يدعي الإعلام الرسمي العراقي) لا تقاتل الا فصائل «داعش»، ولا تقصف الا مواقع «داعش»، وأقرب دليل على ذلك هو قصف صالة طوارئ مستشفى الفلوجة ليلة الرابع من حزيران (يونيو) الجاري التي ذهب ضحيتها ثلاثون شخصاً وجرح ما يزيد على سبعين غالبيتهم مرضى وأطباء وإداريون، (هذا مثال صارخ على أهداف نوري المالكي في حربه المزعومة ضد «داعش»). لا نعجب لذلك، فقد هاجمت قواته فجر 23 نيسان (ابريل) ٢٠١٣ المعتصمين في الحويجة وقتلت خمسين وجرحت مئتين وخمسين. لم تعثر وحدات جيش المالكي في ساحة الاعتصام الا على عصي خشبية، رغم ان الإعلام الرسمي كان يروج على مدى أشهر بأن المعتصمين السلميين ماهم الا إرهابيون مسلحون بأسلحة ثقيلة وينتسبون لتنظيمات «داعش»، والقصص في هذا المجال كثيرة وهذا غيض من فيض.
تنظيمات «القاعدة» و»داعش» غير مرحب بها ورغم ذلك فهي موجودة فعلاً في العراق ومحاضنها عشائرية مختلفة كما انها موجودة وناشطة في دول اخرى ايضاً، هذه حقيقة. ان اعضاء هذه التنظيمات من العرب السنّة لكنها لا تمثلهم وهي ليست وحدها في الميدان، وتنشط كما تنشط فصائل مسلحة اخرى وشاركت بفعالية في معركة الموصل الأخيرة كما هي موجودة بكثافة في الفلوجة، والاعتراض ليس على حقيقة وجودها بل ينصب على تجاهل قوى اخرى مع تضخيم قوة وفعالية هذه التنظيمات بشكل متعمد، والغرض لفت انتباه العالم وهو متحسس جداً من تنامي ظاهرة الإرهاب بهدف خطف الأضواء وتحويل الانتباه، اذ بدل ان ينصرف العالم الى التحري عن سبب غضب العرب السنّة والتعاطي مع ثورتهم المشروعة وتحميل نوري المالكي كامل المسؤولية بسبب سياساته التراكمية الكارثية في التمييز والإقصاء والظلم، فإن العالم ينشغل بدل ذلك بتهديد مزعوم هو تهديد «داعش». وهكذا كلما ارتفع رصيد «داعش» إعلامياً خفت صوت مظلومي السنّة وهذا هو المقصود، اولاً وأخيراً.
هذه المقاربة الخبيثة التي يتلاعب بها الإعلام بالعقول وينقلب فيها الضحية الى جزار والمظلوم الى ظالم مقصودة اذ ليس من شأنها فقط تحرير نوري المالكي من اية ضغوط للاستقالة او الاستجابة للمطالب المشروعة للعرب السنّة او للتخلي عن المطالبة بولاية ثالثة، بل من شأنها ان تستدرج المغفلين او المدفوعين بالهوس الطائفي في الداخل والخارج وتغريهم بالاصطفاف مع المالكي وهو بأمس الحاجة الى ذلك حيث يعيش اضعف أيامه سياسياً.
قصة «داعش» رواية لا تنتهي، سبقتها قصة «القاعدة»، حيث وظفها سياسيون من الصفويين الجدد وعلى رأسهم نوري المالكي في التطهير العرقي، وفي قطع الأعناق وفق قانون ٤ ارهاب، او قطع الأرزاق وفق قانون المساءلة والعدالة، وجميع اعمال القتل والإعدامات والتهجير الطائفي ومصادرة المساجد، واغتصاب النساء، واعتقال الشباب، والتضييق المتواصل الذي حرم العربي السنّي ابسط متطلبات العيش بكرامة – وهو يتعرض لذلك منذ سنوات – وهو ما يرقى إلى ان يكون تطهيراً عرقياً، ليس جديداً، بل هو سياسة منهجية دأب عليها حزب «الدعوة» والمتحالفون معه من اجل اجتثاث العرب السنّة ابتداء من حكومة ابراهيم الجعفري عام ٢٠٠٥ وحتى هذه اللحظة. لقد اغتالت ميليشيات شيعية في يوم واحد الف شخص من السنّة بينهم الكثير من أئمة المساجد والخطباء وكان افراد هذه الميليشيات يرتدون بدلات سوداء هي نفس ملابس «داعش» و»القاعدة» وأحرقتوا منازل وهجروا 1500 عائلة في بغداد عشية الهجمات التي طاولت المرقدين العسكريين الشريفين في سامراء في 22 شباط (فبراير) ٢٠٠٦، والذريعة «القصاص من متشددين سنّة وإرهابيين»! رغم ان ايران وليس متشددي العرب السنّة كانت وراء التفجيرات كما أعلن الجنرال كيسي لاحقاً.
في كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١ وفي اليوم التالي لمغادرة آخر جندي أميركي مقاتل ارض العراق استهدف نوري المالكي نائب الرئيس العراقي بتهم مفبركة وأصدر عليه قضاؤه المسيس ستة احكام بالإعدام والتهم نفسها «ارهاب» وهي نفس التهمة التي تلاحق تنظيمات «داعش» و»القاعدة». في ضوء ذلك لم يعد في العراق الجديد اي معنى ان تكون وسطياً او معتدلاً، لأنك في نهاية المطاف متهم بالإرهاب، ليس بالضرورة لأنك تورطت في عمل او نشاط إرهابي بل لأنك تنتسب لمكون متهم جميع أفراده بالإرهاب – باستثناء من يرضى عنه المالكي او تزكيه دولة ولاية الفقيه – بمعنى ان تكون سنياً اذن انت إرهابي، وهنا أتوقف عند مذكرات كونداليزا رايس عندما نبهت نوري المالكي الى امتعاض العرب السنّة لأنه يستبعد أولادهم من الجيش والأجهزة الأمنية، فأجابها بكل وقاحة «انا لا أطيق العرب السنّة ولا اثق بهم». هكذا وضع نوري المالكي خطاً احمر على جميع افراد المكون، وعلى أساس هذه النظرة يدير المالكي ملف العرب السنّة. الإرهاب ذريعة يوظفها المالكي ويتنصل من خلالها من التزاماته الدستورية والسياسية والأخلاقية كرئيس لوزراء العراق يفترض به ان يمثل العراقيين جميعاً من دون تفريق او تمييز. وهو ليس كذلك بالتأكيد.
لم يسلم نائب الرئيس العراقي من هذه التهمة، ولم يشفع له سجله في المشاركة المبكرة في العملية السياسية التي ثبت الآن انها وظفت من اجل التمكين لمكونات بعينها وهمّشت مكونات اخرى مثل العرب السنّة والتركمان وأقليات اخرى، كما لم تشفع له خسارته لثلاثة من اخوته تم اغتيالهم عام 2006 بسبب ذلك، كما لم يشفع للعرب السنّة وقفة عشائرهم الشجاعة في ملاحقة وتطهير مناطقهم عام ٢٠٠٨ من تنظيم «القاعدة»، وهذا هو نوري المالكي يكافئ تلك العشائر بعدوان عسكري على الأنبار مضى عليه ستة أشهر والعالم كله يتفرج ولا يحرك ساكناً.
لائحة الاتهام لا تتوقف ويبدو ان «داعش» قصة لا تنتهي. لكني أحب ان انوه وأقول بمنتهى الصراحة والوضوح ان الدوائر القلقة من تنامي ظاهرة الإرهاب ونحن نشاطرها ذات القلق يمكنها معالجة الأمر بأقل مايمكن من التضحيات، ان تكون موضوعية وتنفتح على الجميع وعليها ان تتحرك بسرعة اذ ان الوقت ينفد وكلما تجاهل المجتمع الدولي معاناة العرب السنّة – كما حصل حتى الآن – تفاقم الوضع وتوسعت شريحة المتشددين المؤمنين بالعنف، ونصيحتي لمن يعنيهم الأمر ان يعيدوا النظر في موقفهم والفرصة لا زالت متاحة.
* نائب الرئيس العراقي المستقيل