مع تصاعد الفكر المتطرف، تُطرح تساؤلات مهمة بشأن مدى توفر بيئة حاضنة في الأردن لجماعات حاملة لهذا الفكر، ومدى قدرة هذه الأخيرة، بالتالي، على خلق ساحة معركة تساعدها على تحقيق أجندتها.
الإجابة المباشرة ترتبط بتركيبة المجتمع الإثنية والعرقية، والتي تؤكد أن الانسجام في وطننا كبير؛ فلا توجد أوراق رابحة بيد هذه الجماعات يمكن لها التلاعب بها واستخدامها، وتؤهلها لإشعال فتيل حرب؛ بخلاف الحال في العراق وسورية، ومصر أيضا.
لكن التركيبة الآمنة ديمغرافيا، لا تعفي من وجود ظروف موضوعية قد تكون هي الحاضنة للفكر المتطرف، وتتمثل في الوضع الاقتصادي وظروف الحياة الصعبة. يدعم ذلك بقوة تراجع الطبقة الوسطى، التي تشكل عادة حاضنة الإصلاح والوعي في أي مجتمع.
الدراسة الجديدة عن الطبقة الوسطى، والتي أنجرتها دائرة الإحصاءات العامة ووزارة التخطيط والتعاون الدولي، تثبت نظرية يتداولها الناس وتستشعرها الأسر، بتأكيد هذه الدراسة تراجع الطبقة الوسطى وتآكلها، بحيث باتت لا تشكل سوى 29 % من إجمالي عدد سكان الأردن حتى العام 2010، مقارنة بنسبة 41 % في العام 2008.
وتكشف الدراسة الجديدة التي تحمل عنوان “الطبقة الوسطى لعام 2010″، أن الفئة دون الوسطى؛ التي تشكل الشريحة الأكبر من السكان بنسبة 48.6 %، تنال حوالي 33.8 % من إجمالي الاستهلاك العام، وتحقق 33.1 % من مجمل الدخل.
ثمة تفاصيل كثيرة مهمة في الدراسة تساعد في قراءة ما آلت إليه أحوال الأسر الأردنية حتى العام 2010، وبما يمكن من القول إن أحوال هذه الطبقة صارت أصعب مع مرور ثلاث سنوات كانت قاسية اقتصادياً بكل المقاييس. وبحسب الدراسة، فإن 14.3 % من السكان فقراء. وهذه الفئة الأقل دخلاً تستحوذ على 5.9 % فقط من مجموع الاستهلاك، وتحقق 5.2 % من إجمالي الدخل.
في دراسة أخرى، عرضها الخبير الاقتصادي ورئيس فريق من البنك الدولي د. عمر سراج، نكتشف أن حوالي 18.6 % من الأردنيين عرضة للفقر خلال العام، لفترات زمنية محددة، يضافون إلى ما نسبته 14.4 % من القابعين تحت خط الفقر في معظم أشهر السنة.
نسبة المعرضين للفقر كبيرة، وتكشف مدى الفروقات الطفيفة بين من هو فقير، ومن هو على حافة هاوية الفقر. وليكون البؤس الاقتصادي والشعور بالحرمان واسعي الانتشار بين الأردنيين، إذ يشملان قرابة ثلث السكان، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر كبيرة؛ سياسيا وأمنيا واجتماعيا.
التوافق بين نتائج الدراستين واضح؛ ففي الوقت الذي يفقد الفرد موقعه في الطبقة الوسطى، يصير شديد الحساسية للفقر، ومن الفئات الهشة المعرضة للسقوط فيه.
عمليا، ونتيجة الضغوطات الشديدة، نرى الطبقة الوسطى تفتح بابها طاردة لأبنائها، خصوصا من ذوي المداخيل الثابتة، لترميهم في أحضان الفقر المشرعة بوابته على وسعها لاستقبالهم، وهو الأمر الذي يكشف حجم التغييرات الكبيرة التي أحدثتها السياسات الاقتصادية الصعبة في تركيبة الطبقات الاجتماعية.
التغييرات كبيرة، والأزمات متلاحقة؛ منها المحلي، ومنها الإقليمي الذي يلقي بثقله على الاقتصاد المحلي، وليس آخرها ما يحدث في العراق، بعد سورية وسواها.
أهمية النظر إلى نتائج الدراستين السابقتين والتمعن فيها في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة، تتأتى من الظرف السياسي الإقليمي الصعب والمعقد، حيث نشهد تصاعد الحروب الأهلية، وبروز الحركات المتطرفة التي تقتات على الاختلاف وتجعل منه ساحة لمعركتها؛ فنراها تشعل حروبا طائفية تهدد الاستقرار؛ وليس تنظيم “داعش” إلا المثال الأبرز الذي يدعو للانتباه والحذر. فغياب الاختلاف الطائفي والانقسامات العرقية في الأردن لا يحمينا وحده من مخاطر التطرف، فلا يجب أن يدفعنا ذلك إلى طمأنينة زائفة. إذ إن الفقر والبطالة والعوز، وتراجع المستوى المعيشي للأسر نتيجة إغفال البعد الاجتماعي للسياسات الاقتصادية، مع تنامى الفساد حتى الانطباعي منه.. هذه كلها توفر بيئة خصبة لنشر الأفكار المتطرفة واستقبالها، وسط مشاعر من الإحباط والاحتقان، وفقدان الشعور بالعدالة والحق في المشاركة.
دعونا لا نغفل عن واقعنا الذي ربما يجد فيه المتطرفون حاضنة لأفكارهم. وبوادر الحالة بدأت تظهر فعلاً، فهل من نذير؟