في أول مقطع فيديو تم نشره غداة سقوط مدينة الموصل، كان مصوّر الشريط القصير يتحدث بصوت خفيض تخنقه العبرات، وتتخلله كلمات الشكر والتسبيح بحمد الله؛ حيث بدا الرجل وكأنه غير مصدّق لمشهد يظهر فيه رتل طويل من عربات الجيش العراقي، وهي تهرول بخط مستقيم وأضواء أمامية خافتة، إلى خارج تلك المدينة التي تعتبر بمثابة الخزان البشري لضباط الجيش الذي نال وسام الجدارة، وتميز بالمناقبية العسكرية طوال تاريخه المجيد.
هكذا، فقد كان فرار نحو خمسين ألف جندي وضابط من جيش نوري المالكي، حدثاً أكبر بكثير مما اتسع له خيال مقتحمي المدينة العراقية الثانية، وفاق بحصيلته الأولية وغنائمه الهائلة كل ما توقعوه سلفاً من سيناريوهات محتملة لعملية ناجحة، قد تحقق لهم موضع قدم ثقيلة في المدينة الكبيرة، ليبدأوا بعد ذلك عملية قضم طويلة ومكلفة، في مواجهة جيش مدجج بالأسلحة والمعدات الثقيلة.
أما أن يحدث هذا الفرار المشين لجيش ذي سمعة عسكرية مشرفة، وسجل حربي طاعن في البطولة، فقد كان حدثاً مذهلاً بكل المعايير، وصادماً لكل من وجدوا أنفسهم أمام هذا الانهيار السريع، بمن في ذلك تنظيم “داعش” ومن معه من القوى الوطنية والإسلامية والقومية، التي استمدت من إنجازها المفاجئ هذا جرأة مضاعفة، كي تواصل زحفها، وتضع بغداد نصب أعينها كهدف أخير.
سوف تُكتب مئات الصفحات عن فحوى ومغزى هذا الانهيار العسكري المباغت، ويستمر الخلاف في الرأي بين الخبراء الاستراتيجيين والمحللين السياسيين إلى أمد طويل، حول ما إذا كان ما جرى مؤامرة كونية (بعضهم زعم أنها مؤامرة صهيونية)، أو أنه كان نتيجة عوامل خلل متراكمة. غير أن الحقيقة التي لا شك فيها هي أن الجيش الذي بناه الأميركيون وانفقوا عليه مليارات الدولارات، قد انكسر عند أول مواجهة صغيرة.
وتشبه حال الجيوش عندما تنهار أمام قوة غالبة، حال السدود عندما تتصدع بفعل زلزال أو غيره؛ حيث لا سبيل لكبح اندفاعة قوة الماء الحبيس بإقامة سدود ترابية عاجلة، تماماً على نحو ما تؤول إليه حال القطاعات العسكرية المتراجعة كيفياً، فلا يمكن أيضاً لقيادة عليا السيطرة على قوات أصابها الروع، وانهارت لديها المعنويات، وذلك على نحو ما بدا عليه جيش المالكي قبل نحو أسبوع.
وأحسب أن ما جرى للجيش العراقي كان أفدح بكثير، وأشد هولاً، مما وقع للجيوش العربية في الخامس من حزيران (يونيو) 1967، نظراً لضآلة عدد القوات المهاجمة بالقياس إلى عدة الجيش الإسرائيلي وعديده. وبقدر ما كانت مساحة الأراضي العربية التي تم احتلالها قبل نحو ست وأربعين سنة أوسع من قدرة الإسرائيليين على تصديق ذلك الإنجاز الاستراتيجي الذي أخرجهم إلى الشوارع محتفلين على نحو هستيري بالنصر السهل، إن لم نقل المجاني على العرب، بقدر ما عبّرت عنه انفعالات مصوّر الفيديو المشار إليه آنفاً، وهو يصف مشهداً كان غير قادر على تصديقه.
ومع أن استدعاء مثل هذه المقارنة التاريخية فيه ظلم شديد للجيش العراقي الباسل حقاً في كل صفحات قتاله، إلا أن حقيقة الانسحاب بلا قتال سوف تدون على أنها الهزيمة النكراء بلا أدنى جدال، والواقعة التي تعيد إلى الذاكرة القومية مرارات تلك الهزيمة التاريخية المؤسسة لكل ما يعيشه العرب حتى الآن من انكسارات؛ الأمر الذي يمكن الاستنتاج معه أن هزيمة الجيش العراقي سوف تؤسس بدورها إلى تغيير كثير من المعادلات والخرائط والاصطفافات.
وإلى أن ينقشع غبار هذه المعركة المتدحرجة نحو حرب طائفية وشيكة، وينجلي المشهد العراقي الملتبس عن متغيرات جديدة، فإنه تبقى ضرورة القول إن من لا يرى في بانوراما هذا المشهد العراقي المتفاعل ساعة بعد أخرى، غير تلك الراية السوداء لتنظيم إرهابي مقيت، هو إما أنه مغرض، لديه أفكار تنبع من مواقف مسبقة، أو أنه لا يستطيع التمييز بين الماء والسراب. وهو قول ينطبق ليس فقط على الناس الذين يصابون بالعشى الليلي، وإنما ينطبق أيضاً على العديد من الدول والحكومات التي تتعمد خلط الطين بالعجين لأهداف مضمرة، وأخرى معلنة على رؤوس الأشهاد.
عيسى الشعيبي/الخامس من حزيران بنسخة عراقية
18
المقالة السابقة