يستيقظ المصريون اليوم كمن يستيقظ بعد عاصفة طويلة. في القصر رئيس جاء من صناديق الاقتراع. لا يمكن الطعن في شرعيته. ولعلهم يأملون في أن تكون مصر طوت صفحة السنوات الثلاث الصاخبة. ثورتان وميادين تغص بالغاضبين والحالمين. ورئيسان من القصر إلى السجن. ومحطات انتخابية ودستورية وحملات واجتهادات وتدخلات وتفجيرات.
يعرف العرب أن مصر هي مصر. يمرضون معها إن مرضت ويتعافون إن تعافت. لا يمكن إلغاء دورها ولا الاستيلاء عليه. يعرفون كم كان غيابها مكلفاً. أغرى الغياب بعض من توهموا القدرة على الوراثة بخوض مغامرات انتزاع الزعامة. أغرى الدول غير العربية في الإقليم بالتسلل إلى الملاعب العربية والتلاعب بتوازناتها. ليس بسيطاً أن يسمع العربي أن المواجهة على أرض العراق تدور عملياً بين إيران وتركيا وأن ما يدور على أرض سورية هو «مواجهة إقليمية».
خلال العاصفة شهدت مصر اختبارات مهمة وعميقة الأثر. دخل محمد مرسي القصر وارتدى «الربيع العربي» عباءة «إخوانية». وثمة من اعتقد أن المنطقة عثرت على ملامحها العميقة وأنها ستعيش بين «مرشدين» يقيم الأول في طهران والثاني في القاهرة. أساء كثيرون تقدير قدرة الشعب على مقاومة أي تعديل غير طبيعي في روح مصر وهويتها وتركيبتها. لم يلتفتوا إلى الفوارق الجوهرية بين طبيعة الجيش المصري والجيوش في الملاعب الأخرى لـ «الربيع». نزعت نتائج الانتخابات الرئاسية صفة الانقلاب عما جرى في حزيران (يونيو) الماضي، والذي كان يستحق قبل كلمة صناديق الاقتراع صفة شبه ثورة وشبه انقلاب.
لا يمكن إنكار ما فعلته الميادين. يوم أسقطت حسني مبارك ويوم أسقطت محمد مرسي. لكن الدول لا يمكن أن تقيم في الميادين إلى ما لا نهاية. تضيع الثورة إن لم تقم الدولة العادلة. تسود الفوضى إذا تأخر قيام المؤسسات استناداً إلى إرادة الناخبين. أعرف المخاوف التي تراود بعض المصريين، وأولها خشيتهم من أن يعتبر الجيش هو الحزب الحاكم في المرحلة المقبلة. وأن تؤدي المعركة القاسية ضد الإرهاب إلى إيقاظ شهية أجهزة الأمن في توسيع الاعتقالات والضغط على الحريات. لكنني افترض أن أي قراءة هادئة لمجريات سنوات العاصفة تظهر خطورة العودة إلى اعتناق أزياء قديمة لا يقبلها الشباب الذين ثاروا ضد القهر والفقر والفساد والظلام.
لن تكون مهمة الرئيس عبد الفتاح السيسي سهلة على الإطلاق. لكن من حسن حظ مصر أنها عثرت خلال العاصفة على أشقاء وأصدقاء اتخذوا قراراً قاطعاً بـ «منع سقوط مصر»، خلافاً للموقف الأميركي والتردد الغربي. كان العمود الفقري لهذا القرار الموقف الذي أعلنه الملك عبد الله بن عبد العزيز في حزيران (يونيو) الماضي، وجدده قبل أيام بلغة واضحة وصارمة وقاطعة. وهو موقف تبنته أيضاً دولة الإمارات ولم تكن الكويت بعيدة منه. عبر الدعم المالي أنقذت السعودية الاقتصاد المصري من الانهيار، وعبر الدعم السياسي وفرت لمصر مظلة عربية ودولية ساعدتها على استكمال خطوات الخروج من العاصفة.
بعد إجراء الانتخابات التشريعية المقبلة تكون مصر استكملت خطة عودتها في الداخل لتبدأ معركتها الكبرى في التنمية والاستقرار والعودة إلى اجتذاب السياح والمستثمرين. حسن إدارة المرحلة سيحرم الجناح المتصلب في «الإخوان» من أخذ الجماعة إلى خيار انتحاري كامل. والسلطة مطالبة بأن تكون مخيفة لمن تلوثت يداه بالدماء ومقنعة لمن لم يفعل. حسن إدارة المرحلة سيدفع شرائح من الجمهور المقابل إلى إعادة النظر في حساباته.
حين تعود مصر إلى مصر، على أهل الإقليم أن يأخذوا ذلك في الاعتبار خصوصاً أولئك الذين تضخمت أدوارهم واعتقدوا أن من حقهم أن يصنعوا لمصر لونها وأزياء مستقبلها. أغلب الظن أن وصول السيسي موجع لأهل القرار في أنقرة والدوحة وطهران والخرطوم وغزة، وكذلك لمن يحولون ليبيا اليوم إلى مصدر خطر على نفسها وجيرانها. تخطئ دمشق أيضاً إذا قرأت وصول السيسي من زاوية هزيمة «الإخوان» وحدها. استمرار العلاقات المصرية – السعودية بزخمها الحالي يؤسس لإعادة بناء محور الاعتدال في المنطقة ويؤسس لترميم دور اللاعب العربي فيها.
حين تعود مصر إلى مصر يعود اللاعب المصري إلى الإقليم. على بعض من راهنوا على غيابه الدائم أن يتحسسوا حدود أدوارهم.