الرمثا المتاخمة لتوأمها السورية درعا، تحصد اليوم تداعيات الحرب المستعرة في سورية منذ ثلاث سنوات، بين نظام بشار الأسد ومروحة من المعارضين المحليين والأجانب.
وسط انتشار كثيف لحرس الحدود، تتمدد سنابل القمح، وتتراقص أغصان الزيتون واللوزيات على مسافة كيلو مترين يفصلان بين جناحي عاصمة حوران التاريخية؛ أهراء روما، قبل ألفي عام.
بين ليلة وضحاها، ارتفع عدد سكان الرمثا بنسبة 50 % ليصل إلى 130 ألف نسمة، مع لجوء عائلات بأكملها، تاركة خلفها أحلاما بمستقبل أفضل. نساء وأطفال وشيوخ يتدفقون على هذه المدينة الحدودية، التي استقبلت طلائع اللاجئين قبل ثلاث سنوات، من مهد الثورة السورية.
الموجات البشرية المتلاحقة كشفت عيوبا مستوطنة في مدن الأردن وقراه، حيث ارتفع عدد السكان بنسبة 20 % في ثلاث سنوات. وتتفاقم الحال فوق بنى تحتية كانت بالكاد قادرة على اللحاق بمتطلبات النمو السكاني الطبيعي؛ من تعليم وصحة، كما خلق فرص عمل.
هذه المأساة المستترة لم تكن لتخطر ببال السوريين أو الأردنيين منذ برزت بداية نتيجة تعنت نظام بشار الأسد في التعامل مع مطالب انتفاضة شعبية تطالب بالإصلاح، قبل أن يدخل على الخط خليط معارض من قوى يسارية وعلمانية وإسلامية. وبعد ذلك، رتع تنظيم القاعدة ومشتقاته الإرهابية في أرض سورية.
اليوم، يدفع الأردنيون والسوريون معا ثمن الصراع هناك.
يقف الأردن -وسائر دول الجوار- عاجزا عن التعامل مع التحديات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، التي تلقي بوزرها على السوريين وسكان الدول التي فتحت حدودها أمام كبرى موجات اللجوء قاطبة.
الجميع الآن أمام تحدي التعايش والتأقلم مع صراع مفتوح على شتّى الاحتمالات، من دون بوادر لحل سياسي قريب، وبخاصة بعد خوض الأسد دورة رئاسية ثالثة، وانحسار خيار التدخل العسكري في أجندات الدول الغربية.
في الأثناء، تتكشف يوما بعد يوم نتائج “الطبطبة” التي مورست لعقود على أحوال بلديات المملكة ذات الميزانيات المثقلة بالديون نتيجة المحسوبية وسواها، وتراجع الإنفاق الرأسمالي على البنى التحتية، في بلد يتفاقم عجز موازنته بفعل تركيز الإنفاق على الجهاز البيروقراطي، وتداعيات أزمة الطاقة، إلى جانب بنود أخرى.
الآن، تتجلى العيوب المزمنة في غياب استعداد يتعدى إطفاء الحرائق وإدارة الأزمات، رغم امتلاك الأردن سجّلا من الخبرة التراكمية، نتيجة تعامله مع موجات لجوء خلال العقود الستة الماضية؛ آخرها من العراق.
زوار مدينة الرمثا هذه الأيام يرصدون لدى أهلها مخاوف وهموما وتحديات. ويشعر القادم بتنامي الاحتقان بين الرماثنة وآلاف اللاجئين -بينهم أطفال ونساء وجرحى حرب- فقدوا أرزاقهم ومقومات الحياة. والغالبية من الطرفين تتبادل التهم وتحاول شيطنة الآخر.
تستمع إلى رماثنة في البيوت والشوارع والمقاهي، فتجد الشكوى من شطحات الأسعار بعد أن اعتادوا التسوق بأسعار رخيصة نسبيا، بفضل تجارة كان يوفرها “البحارة” يوميا على خط الشام-عمان.
يحمّلون اللجوء مسؤولية غلاء أسعار الغذاء وإيجارات المنازل، واكتظاظ المدارس والعيادات الصحية والمستشفى الحكومي الرئيس. وتعلو شكاوى من منافسة تجار سوريين وعمالة تأخذ فرصهم بأجور أقل. لكن من يشتكي أكثر هم المصريون لأن السوريين المهرة قطعوا رزق أصحاب الأعمال الحرة.
أسطوانة تتكرر في شوارع الرمثا: “الله أكبر.. طبق البيض صار بأربع دنانير، وكيلو اللحم البلدي تضاعف إلى 12 دينار.. ولا دواء ولا علاج من الحكومة مثل الناس وصفوف المدارس مثل علب السردين والزبالة مزينة الشوارع والمياه شحيحة وزحمة السير لا تطاق وما في فرص شغل. العنوسة في ارتفاع والجرائم في ازدياد.. عم منقاسم السوريين كل شيء في حياتنا”.
في المقابل، تسمع قصصا مؤثرة عن شهامة أردنيين فتحوا بيوتهم للسوريين، وتقاسموا معهم لقمة العيش والماء والهواء. بعضهم بنى على علاقات النسب والدم والتجارة بين البلدين.
بعد أن امتلأت مقابر الرمثا بجثامين سوريين، افتتحت مقبرة “الشهداء” وراء دائرة الترخيص على أرض تبرعت بها عائلة رمثاوية عن روح عميدها، فيما موّل داعية قطري مشروع تسويرها وتطويرها.
داخل الأسوار قبور متراصة، وأخرى محفورة تنتظر احتضان أجساد “شهداء” قضوا قبل التمكن من إسعافهم عقب إدخالهم عبر 45 منفذا غير رسمي.
من له أهل ومال يدفن تحت شاهد قبر يذكر اسمه وتاريخ ميلاده ومماته ومسقط رأسه. والفقير يدون اسمه بدهان أحمر أو أخضر، من دون تفاصيل. هذه المقبرة تمتلىء سريعا. على أسوارها الداخلية أسماء شهداء وشعارات تدين نظام الأسد.
محزنة هي قصص معاناة اللاجئين مع الحياة والموت والإعاقات والجروح النفسية. حكايات كرامة مهدورة، وعائلات تقطعت أوصالها أو اختفت.
تسمع قصصا مريبة عن طبقة جديدة اسمها تجار الحرب؛ أردنيون وسوريون، يستغلون حاجات الناس لتحقيق مكاسب مالية سريعة. أصحاب بيوت يخرجون مؤجرين أردنيين مقابل جني أرباح من اللاجىء. أصحاب مستودعات يؤجرونها من دون أبواب أو شبابيك مقابل 100 دينار شهريا. وفي الداخل، يتكدس 10 إلى 15 فردا على فرشات متراصة. يتابعون أخبار بلادهم عبر جهاز تلفاز وطبق لاقط. الطعام يجهّز داخل المستودع، والأفضل عدم الخوض في تفاصيل طريقة الاستحمام أو استخدام الادوات الصحية.
الخلاصة أن غالبية الأردنيين والسوريين متضررون مما يدور في سورية. شكوى ارتفاع الأسعار، وشح المياه، وتراجع نوعية التعليم والخدمات الصحية، والبطالة والفقر، كانت موجودة قبل وصول اللاجئين.
الدول الغربية والعربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي والسعودية والإمارات والكويت، قدمت مئات الملايين. ومكاتب الأمم المتحدة المعنية بالعلم والصحة والأطفال والهجرة والطعام وسعّت أنشطتها، ودخل على الخط أيضا 50 منظمة مجتمع مدني عالمي. لكن الأردن يؤكد منبها أن عدد السوريين القادمين يوميا يفوق طاقته الاستيعابية.
إغلاق الحدود ليس أفضل خيار. رسميا، يجاهد الأردن للضغط دبلوماسيا من أجل تطبيق قرارات مجلس الأمن، وتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية والطبية للتخفيف من حدة اللجوء اليومي.
لا مصلحة للأردن أو لسورية في قطع العلاقات الدبلوماسية بعد طرد السفير السوري بهجت سليمان. ويتوقع أن تخضع إعادة تعيين دبلوماسيين للنقاش بعد ان تهدأ النفوس. وطالما لا يفكر الأردن في قطع العلاقات، فإنه لن يقر افتتاح مكتب تمثيلي للمعارضة السورية على أراضيه.
لا بد وأن الدولة -حال سائر الأردنيين- تتمنى نهاية سعيدة للصراع في سورية. وهي تدعم عملية “سياسية” علّها تجلب الأمن والاستقرار. وتتطلع إلى ترميم هياكل دولة الجوار بما يمكنّها من كبح خطر جماعات إرهابية اتخذت الدين غطاء للقتل والتشريد -وهو منها براء- وأحالت سورية إلى مفرخة للإرهاب بعد أفغانستان والعراق. لكن الأكيد ان الأردن في عين الإعصار السوري. نافذة الحل السياسي تتضاءل يوما بعد يوم مع إصرار الأسد على استدامة كرسيه.
هذا السيناريو يحتّم رسم تصور جديد للعلاقة بين الجارين، مع ضرورة التعامل مع الأطراف المختلفة فيها، بما لا يتعارض مع مصالح الأردن العليا.
شعبيا، يؤمل أن يحاول الأردنيون والسوريون التأقلم مع شر لم يختره أي منهم… شر كشف للأردنيين عيوبا معيشية وحياتية كانت مخفية وراء إصرار الخطاب الرسمي على تجميل الصورة.
لذلك، لا بد من تسمية الأشياء بمسمياتها. الرمثا شاهدة على تردي أحوال سكانها واللاجئين. وغيرها عشرات المدن المشلولة اقتصاديا واجتماعيا، في مقدمتها المفرق، الرابضة على سيف الصحراء بين سورية والأردن والعراق.
فيا حبذا لو تدرك الحكومة حجم الاحتقان تحت السطح مع تقيّح الجرح النازف في سورية. وعساها تسارع لتخفيف معاناة المواطن المنهك من خلال تمويل مشاريع تنموية صغيرة، بدلا من صرف مئات الملايين على مشاريع عملاقة يتنفّع منها بعض رؤوس الأموال، من دون قيمة مضافة لاقتصاد الوطن وجيب أبنائه المثقوب.
ومن موقعه المؤقت في مجلس الأمن، على الأردن نقل معاناة شعبه المسحوق، والدفع باتجاه فتح ممرات آمنة لإيصال مواد الإغاثة حصرا إلى الشعب السوري المكلوم، بانتظار موافقة الحكومة السورية والميليشيات التي تسعى للتحكم بتوزيع الطعام والدواء. إذ يبقى هذا الشعب صاحب الحق الأول في الإغاثة وترميم ندوبه، سواء الموجود تحت سيطرة الحكومة أو الجماعات المسلحة.
رنا الصباغ/”الله لا يجرب حدا”
25
المقالة السابقة