لو سألت حتى بعض سكان بلدان العالم الثالث غير العربية عن الطاقة، لاستفسروا منك: أي نوع من الطاقة تعني، القديمة كالكهرباء، أم الحديثة كالطاقة النووية وغيرها؟ بعبارة أخرى، فقد أصبحت عملية توفير الكهرباء شيئاً من الماضي، لا بل تحصيل حاصل، لأن الكثير من الدول تجاوزتها إلى ما هو أرقى وأحدث. أما في العديد من بلادنا، خاصة العراق وسوريا ومصر ولبنان واليمن وغيرها، فما زالت الكهرباء نوعاً من الرفاهية، وليست مادة عادية يستهلكها الناس دون أن يهتموا بكيفية الحصول عليها.
من أكثر البلدان العربية التي تعاني من أزمة كهرباء منذ عقود هو لبنان. صحيح أن العدوان الإسرائيلي المتكرر كان سبباً رئيسياً في تعطيل شبكات الكهرباء وتخريبها، لكن في الوقت نفسه لا تمكن تبرئة الحكومات اللبنانية المتعاقبة والفاسدة التي تاجرت بمحنة الشعب اللبناني ومعاناته المزمنة في تأمين التيار الكهربائي. لم تستطع الحكومة اللبنانية، رغم المساعدات العربية السخية، أن تصلح مصلحة الكهرباء، بحيث أصبح اللبنانيون معتادين على انقطاع الكهرباء المتكرر والمزمن، لا بل إن الكثير منهم راح يعتمد على نفسه في شراء المولدات لتأمين خدمة أساسية بسيطة تؤمنها عادة الدولة والشركات التي تحترم نفسها في كل أصقاع العالم. وتعود أزمة الكهرباء في لبنان إلى الفساد المزمن في هذا القطاع الحيوي وغيره من القطاعات اللبنانية التي تحولت إلى إقطاعيات يتاجر بها الحيتان المتحكمون بلقمة عيش الشعب اللبناني وحياته.
صحيح أن سوريا جارة لبنان كانت أفضل حالاً، لكن الكهرباء تشكل للشعب السوري صداعاً منذ عشرات السنين، خاصة في فصل الصيف، حيث يزداد الطلب على الكهرباء بسبب الحر. وقد اعتاد السوريون منذ سنوات على سياسة التقنين التي تحرمهم من الكهرباء لساعات وساعات. لكن أزمة الكهرباء في سوريا تفاقمت مرات ومرات بعد اندلاع الثورة، حيث أدت العمليات الحربية إلى الإضرار بشبكات الكهرباء، ناهيك عن أن الحكومة السورية راحت تقطع الكهرباء معظم الوقت عن الكثير من المناطق لتعاقبها على الانتفاض في وجه الدولة. وتعاني سوريا الآن من أزمة كهرباء الأسوأ من نوعها منذ عقود. ومن الواضح أن الشعب السوري سائر على خطى الشعب اللبناني في الاعتماد على نفسه في تأمين الطاقة بعد أن فشلت دولته في تأمين هذه الخدمة التي أصبحت متاحة للبلدان الأكثر تخلفاً وفقراً في العالم.
وحدث ولا حرج عن العراق الذي فشلت حكومته، ليس في تأمين الكهرباء فقط، بل أيضاً في تأمين الوقود الذي يُعتبر العراق ثاني أغنى بلد منتج له في المنطقة. ويعيش العراق أزمة كهرباء مرعبة منذ أكثر من عشر سنوات، أي منذ التحرير المزعوم. فقد فشلت الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سقوط النظام السابق في تأمين الطاقة للشعب العراقي رغم ميزانيتها العظيمة. فقد أنفقت الحكومة العراقية منذ عشر سنوات أكثر من ثلاثين مليار دولار لإصلاح شبكة الكهرباء، لكن المواطن العراقي مازال يعاني من انقطاعات متكررة، مما جعله يعتمد على نفسه في تأمين تلك الخدمة الأساسية. أين ذهبت المليارات التي خصصتها حكومة المالكي لإعادة تأهيل القطاع الكهربائي؟ طبعاً ذهبت في جيوب المسؤولين الفاسدين. ولو قارنا السرعة التي كان يعيد فيها نظام الرئيس صدام حسين الخدمات للشعب بعد تعرضها للعدوان الأمريكي بسرعة الحكومات التي جاءت بعده لوجدنا الفرق شاسعاً. لقد كانت الحكومة السابقة قبل الغزو تعيد بناء المرافق المدمرة والجسور والطرق بلمح البصر، بينما لم يستطع المالكي وشركاه تأمين أبسط أساسيات الحياة للعراقيين رغم توفر ميزانيات عملاقة.
وقد انضمت مصر مؤخراً لركب البلدان العربية التي تعاني من نقص الطاقة الكهربائية، مع العلم أنها كانت متوفرة بشكل معقول في عهد الرئيس السابق حسني مبارك. وقد تدهور وضع الكهرباء في السنة التي حكم خلالها الرئيس محمد مرسي. وقد ظن البعض أن حكومة مرسي هي المسؤولة، لكن الأيام أثبتت أنها مشكلة كبرى تؤرق الحكومة التي جاءت بعد الانقلاب على حكم الرئيس مرسي. وتواجه مصر الآن أزمة كهرباء كبرى، خاصة في قادم الأيام، حيث يزداد الطلب على الكهرباء في الصيف. وقد أصبحت الكهرباء الشغل الشاغل للشعب المصري بعد أن كانت خدمة اعتيادية بالنسبة للمصريين.
هل يعقل أن العديد من بلداننا بات يعاني الآن من أزمات عالجتها حتى البلدان النامية منذ عقود؟ هل يعقل أن الدول الآن تنتج أنواعاً جديدة من الطاقة، بينما عدنا نحن إلى نقطة الصفر في تأمين التيار الكهربائي؟ هل يعقل أن الكثير من البلدان دخلت عصر الطاقة النووية، بينما لم تستطع بلداننا أن تؤمن الطاقة العادية لشعوبها التي يضطر بعضها لتحطيم الأشجار كي يصنع من خشبها وقوداً للتدفئة وطهي الطعام، كما يحدث في سوريا وغيرها؟ ألا تخجل تلك الدول من نفسها؟ هل يعقل أن الكثير من شعوبنا باتت تشحذ الطاقة وهي تنادي: كهرباء يا محسنين كهرباء!