قبل أيام قليلة،أحيا فلسطينيو الداخل المحتل عام 1948 ذكرى نكبة فلسطين، بفعاليات مُتميزة، كانت منها هذه المرة قيام أعدادٍ واسعة من الناس بزيارة القرى المُدمرة التي غادرها أصحابها بفعل القوة والعنف والترانسفير والتطهير العرفي عام النكبة 1948، ومنها بلدة (لوبية) قضاء مدينة طبريا.
الفعاليات هذا العام، تميزت بالحضور الكثيف للناس، ومشاركة كل القوى والأحزاب العربية داخل “إسرائيل” وفي المقدمة منها الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والحزب العربي الديمقراطي، والحركة الوطنية للتغيير، وحزب التجمع الديمقراطي.. ومعها بعض الشخصيات “السلامية اليهودية” المعارضة لسياسات اليمين ولحكومة بنيامين نتنياهو. ويتوقع لتلك الفعاليات أن تتوالى وأن تستمر، كما جرت فعالية مشابهة يوم الخامس عشر من مايو 2014 الجاري في قرية (الطيرة) قضاء حيفا المُدمرة منذ عام 1948.
في تلك الفعاليات، بات ظهور الأعلام والرايات والشعارات والرموز الوطنية الفلسطينية أمراً مُستجداً، وقد تم فرضه فرضاً، بعد أن كانت سلطات الاحتلال تقمع وبقوة أي مشاهد أو دلالات رمزية وطنية ذات طابع فلسطيني خالص داخل الأرض المحتلة عام 1948، باعتبارها تجري داخل أراضي دولة “إسرائيل”.
فلسطينيو الداخل الذين يُطلِق عليهم البعض مُسمى “عرب إسرائيل” كسروا الإجراءات “الإسرائيلية” المُعتادة كل عام عند إحياء ذكرى النكبة، وزجوا برموزهم وأعلامهم وشعاراتهم الوطنية في فعاليات النكبة، علماً أن جدول أعمال الدورة الحالية “للكنيست الإسرائيلي”(البرلمان) يزخر بأكثر من عشرين اقتراحا يتعلق بإجراءات سلبية ضد فلسطينيي الداخل، أصحاب الأرض الأصليين.
فعاليات النكبة، تَمُرُ هذا العام والشعب الفلسطيني يعيش في مناخات وأجواء الانهيار العملي لمسيرة التسوية السياسية واصطدامها بالجدار المسدود بالرغم من المحاولات والجهود الإنقاذية التي تبذلها الإدارة الأميركية بشخص وزير الخارجية جون كيري. حيث يتوقع أن تبقى الأمور على حالها، تراوح مكانها مادام الموقف “الإسرائيلي” على ماهو عليه، ومادامت الإدارة الأميركية تهادن سلطات الاحتلال بعيداً عن اتخاذ مواقف جدية وحازمة من سياساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، خصوصاً بالنسبة لعمليات تهويد الأرض والاستيطان. فالإدارة الأميركية وبالرغم من مُتابعة وزير خارجيتها لمسألة المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني و”الإسرائيلي” إلا أنها (أي الإدارة الأميركية) تَصرِفُ جل اهتمامها في المرحلة الراهنة في متابعة قضايا دولية باتت تحظى بالأهمية الأكبر من ملف المفاوضات في المنطقة. فإدارة الرئيس باراك أوباما تعمل على إعادة توجيه أولويات السياسة الخارجية الأميركية نحو احتواء التمدد الصيني في منطقة المحيط الهادئ، على حساب التركيز على المنطقة العربية والإسلامية، وغير ذلك من القضايا الدولية التي تحظى بأولويات مُتقدمة عن الملف الشرق أوسطي عند الإدارة الأميركية.
وفي هذا المسار من التحولات السياسية إن كانت على صعيد بروز دور فلسطينيي الداخل عام 1948 وتصاعده داخل قلب “إسرائيل”، أو على صعيد توقف العملية السياسية التفاوضية، جاء إفصاح الرئيس محمود عباس عما يدور داخل خلده من تشاؤم كبير حيال مُستقبل التسوية المطروحة، ووصوله إلى حافة اليأس من إمكان تحقيق اختراق فعلي في العملية السياسية التفاوضية، وهو ماعبر عنه بكلمته التي كان قد ألقاها بداية الشهر الحالي في افتتاح أعمال المجلس المركزي الفلسطيني في رام الله.
وعليه، إن التقديرات تنحو باتجاه التنبؤ بإمكانية توالد ثلاثة سيناريوهات خلال المرحلة التالية التي يتوقع لها أن تشهد غصات سياسية إضافية. فالسيناريو الأول، يتمثل بتوقعات تقول بولادة المزيد من أجواء الاحتقان داخل الأرض المحتلة، خصوصاً مع استمرار عمليات التهويد المُتسارعة، وهو مايدفع ويهيئ التربة والمناخ العام لبروز شرارات انتفاضة فلسطينية ثالثة، تعيد طرح الموضوع الفلسطيني برمته من جديد، وبخيارات مختلفة، بالرغم من حالة الإنهاك الشديدة التي أثقلت كاهل الفلسطينيين في الداخل خصوصاً في قطاع غزة مع الحصار المتواصل منذ سنوات وفي الجانب الاقتصادي عموماً. وبالتأكيد فإن توالد خيار الانتفاضة ونجاح هذا الخيار في تعبيد الطريق أمام تحقيق إنجازات ونقلات نوعية فلسطينية، يتطلب إستراتيجية عمل وطني فلسطيني مشتركة بين جميع القوى ومتابعة خطوات المصالحة الوطنية على الأرض.
أما السيناريو الثاني، وهو السيناريو الأكثر احتمالاً وتواتراً، فيتمثل باحتمال وقوع ترضيات تفاوضية صغيرة تقدمها الولايات المتحدة لإعادة الطرف الفلسطيني الرسمي إلى طاولة المفاوضات مع الطرف “الإسرائيلي”، وبالتالي العودة إلى دوامة المماحكات داخل غرف التفاوض المغلقة دون إنجاز أي تقدم ملموس، وهو ماتسعى اليه الولايات المتحدة الآن بالرغم من التفاتها نحو ملفات وأولويات خارج منطقة الشرق الأوسط. إن هذا السيناريو سبق وأن تكرر في مرات عديدة طوال مسيرة المفاوضات التي كانت تنتكس من مرحلة لمرحلة، فيما كانت الولايات المتحدة بتقديم رشوات تفاوضية لإعادة إقلاعها، لكن النتيجة في نهاية كل مرة كانت في الانتكاس مرة تلو المرة.أما السيناريو الثالث فهو السيناريو الأقل احتمالاً، ويتمثل بقيم السلطة الوطنية التنفيذية بتنفيذ التهديدات التي كانت تطلقها على الدوام بحل السلطة كما تطالب بعض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية ومنها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إضافة لفصائل المعارضة، ما يؤدي إلى خلط الأوراق والعودة إلى المُربع الأول، باعتبار أن وجود سلطة ضعيفة مقيدة أمامها أفق مسدود، هو أسوأ خيار إذ يحمّلها مسؤوليات كبيرة أمام الشعب الفلسطيني وأمام المجتمع الدولي، ولا يسمح بإحداث أي تقدم على الأرض لمصلحة تحقيق الحقوق الوطنية الفلسطينية. وبالتالي فإن حل السلطة يفترض أن يستتبع حال سريان مفعول هذا السيناريو، إعادة مجمل القضية الفلسطينية إلى دائرتها الأولى في مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة ووضع المجموعة الدولية أمام مسؤولياتها وتسليمها إدارة شؤون هذا الشعب المحتل.
أخيراً، إن الأجواء السياسية العامة المُخيمة على منطقة الشرق الأوسط، وساحة الصراع في فلسطين، تشي بأن السخونة السياسية قد تكون آتية، وربما تترافق معها سخونة التصعيد العسكري من قبل قوات الاحتلال ضد الفلسطينيين في الداخل، وضد قطاع غزة على وجه الخصوص، وما يهمنا هنا أهمية السير باتجاه إنجاز ملفات المصالحة الوطنية الفلسطينية كاملة، وإعادة بناء الخيارات الوطنية الفلسطينية المُتعددة، ومغادرة موقع الخيار الصفري.