مع إطلالة شهر أيار/مايو 2014، تتجدد ذكرى نكبة الوطن الفلسطيني، ففي أيار/مايو عام 1948 سقطت فلسطين بيد العصابات الصهيونية التي أعلنت عن قيام الدولة العبرية الصهيونية على نحو (76%) من أرض فلسطين التاريخية مع تشريد أكثر من (65%) من أبناء فلسطين في رحلة استعمارية لم يشهد مثيلها التاريخ المعاصر للبشرية جمعاء، ولا حتى التاريخ بأسره. فقد قامت الدولة العبرية على فلسفة إحلال شعبٍ مكان شعب البلاد الأصلي، واستخدمت لتحقيق ذلك عمليات الإبادة والترانسفير والتطهير العرقي، بشكل يقارب ما حصل في بلاد الأميركيتين وأستراليا ونيوزلندا مع فارق كبير تمثل في استناد الحركة الصهيونية إلى التبرير الأيديولوجي القائم على أساس خرافة الميثولوجيا، التي لاقت استحسانًا عند الغرب الاستعماري في حينها، كما لاقت تبريرًا قويًّا لدى عتاة الصهاينة من أجل تحشيد اليهود باتجاه القدوم إلى فلسطين تحت جناح الانتداب البريطاني في قوافل الهجرة الاستعمارية الاستيطانية الكولونيالية على حساب الشعب العربي الفلسطيني وأرضه الوطنية.
ومع هذا، ومع آلام النكبة، التي قذفت بأكثر من نصف الشعب الفلسطيني إلى دياسبورا المنافي والشتات، إلى سوريا ولبنان والأردن بشكل رئيسي، فإن نموًّا سكانيًّا فلسطينيًّا بات الآن يقض مضاجع صناع القرار السياسي والأمني والعسكري في دولة “إسرائيل”. فالمئة وستين ألفًا من الشعب الفلسطيني الذين بقوا على أرض فلسطين المحتلة عام 1948 بعد عام النكبة أصبحوا الآن أكثر من مليون وخمسمئة ألف مواطن فلسطيني مُتجذرين على أرض المثلث والنقب والجليل والقدس الغربية داخل العمق المحتل من فلسطين التاريخية، وباتوا بذلك قوة بشرية ذات تأثير ديمغرافي هائل على خارطة إسرائيل التي أراد صناعها أن تكون دولة يهودية صافية على أنقاض الشعب الأصلي. كما باتوا قوة سياسية قادرة على توجيه الشارع العربي في الداخل عام 1948، وصياغة موقفه وبرنامجه الوطني المتوافق والمتكامل مع البرنامج الوطني لعموم الحركة الوطنية الفلسطينية.
ففلسطينيو الداخل المُحتل عام 1948 ليسوا عرب “إسرائيل” كما تروج وتستسهل وصفهم وسائل الإعلام العربية وغير العربية بتلك السمة، وليسوا الأقلية العربية كما تروج الوسائل الإعلامية إياها، بل هم أبناء الوطن الأصليون. فالتعبيران السابقان ضاران ولا يعكسان حقيقة الصراع، ويشكّلان مدخلًا ممتازًا لترويج ثقافة الرواية الميثولوجية الصهيونية التي تحدثت عن فلسطين خالية السكان تحت شعار زائف “فلسطين أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض”.
إن آلام النكبة، أوجدت وصنعت روحية التحدي عند غالبية الفلسطينيين، ودفعت بهم لشق سُبل الحياة بقوة على طريق إعادة بناء الشخصية الوطنية الفلسطينية، وبناء الكيانية التعبيرية الرمزية في مواجهة عملية ومحاولات طمس تلك الهوية والتي جرت منذ بواكير النكبة. فاستطاع الفلسطينيون نيل الاعتراف الدولي الواسع بها، ليصبح مسار الصراع حاليًّا بين شعبٍ تحت الاحتلال، وبين احتلالٍ مرفوض بعرف الغالبية الساحقة في المجتمع الدولي ومنظموماته السياسية وبالأخص منها الأمم المتحدة.
وتترافق ذكرى النكبة هذا العام مع الانهيار شبه الكامل لعملية التسوية التي وصلت لحدود عالية من الاستعصاء نتيجة سياسات الاحتلال والانحياز الأميركي الفاقع لصالح الرؤية “الإسرائيلية” التي تَمَخَّضت عنها الخطة الأميركية التي ذاع صيتها مؤخرًا والتي قدمها وزير الخارجية جون كيري. فقد انتهت رسميًّا، قبل أيام المدة الزمنية المُفترضة للمفاوضات التي استؤنفت بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين” برعاية أميركية في شهر تموز/يوليو الماضي 20014، من دون تحقيق أي تقدم يُذكر على صعيد الملفات الحساسة، في وقت تزامن انتهاء هذه المُهلة مع قيام الدولة الصهيونية بمضاعفة عمليات الاستيطان والتهويد خلال الأشهر التسعة الأخيرة وخاصة في منطقة القدس وأحيائها العربية التي يتم اقتلاعها بالتدريج وفق سياسات ممنهجة لم تتوقف لحظة واحدة.
وفي هذا السياق، أظهرت إحصائية نشرتها “منظمة السلام الآن الإسرائيلية” أنّ “إسرائيل” وافقت على بناء (13) ألفًا و(851) وحدة استيطانية في مُستعمرات الضفة الغربية وفي القدس الشرقية المُحتلة خلال تسعة أشهر من المفاوضات مع الفلسطينيين. بينها (6661) في مُستعمرات الضفة الغربية. كما أطلقت أكثر من أربعة آلاف رخصة عطاء للبناء الاستيطاني في الضفة الغربية وفي القدس الشرقية خلال الفترة نفسها. وبالتالي فإن ركائز عملية التسوية الحقيقية على أساس المرجعية الدولية ذات الصلة، باتت منهارة منذ فترة بعيدة، تحت وطأة سياسات الاحتلال واستمرار عمليات قضم الأرض ونهبها وبناء المستعمرات فوقها، وتوسيع ماهو قائم منها.
إن ذكرى النكبة الأليمة، تمر هذا العام، والشعب الفلسطيني يعيش نكبات جديدة، خصوصًا فلسطينيي سوريا، الذين تعرضوا ويتعرضون الآن لنكبة أكبر وأعمق وأشدُ إيلامًا من نكبة العام 1948، مع تشريد الغالبية منهم داخل سوريا وخارجها وتحويل مخيماتهم وتجمعاتهم لمناطق اشتباكات ساخنة، وهو ما أدى لسقوط نحو (2500) شهيد من فلسطينيي سوريا حتى تاريخه، وخصوصًا في مخيم اليرموك، الذي يُعتبر عاصمة الشتات الفلسطيني، وعنوان حق العودة. كما يعيش فلسطينيو القطاع في ظل حصار صعب ما زال مفروضًا منذ أكثر من ثماني سنوات دون أن تتحرك مجموعات الضغط الدولية من أجل وضع حدٍّ له ولسياسات الاحتلال..
وخلاصة القول، إن ذكرى النكبة وبكل آلامها، تمر هذا العام والفلسطينيون يواصلون صمودهم وبقاءهم فوق أرضهم بالداخل، وبالتمسك بحق العودة من قبل فلسطينيي الشتات في سوريا ولبنان والأردن.
كما أن الدولة الصهيونية التي تعيش لحظات قوتها المُفرطة وعنجهيتها اللامحدودة، تعيش في الوقت نفسه لحظات مُتتالية من قلق سؤال الوجود والبقاء. فالمُعطيات صارخة وحادة على الأرض، رغم هذا الوجع الثقيل الذي ما زال يرزح تحته الشعب الفلسطيني، واللاجئون منه على وجه الخصوص في مخيمات وتجمعات اللجوء والمنافي في سوريا ولبنان والأردن وغيرها من البلدان. حيث يتواصل صمود الغالبية الساحقة من الفلسطينيين في الداخل وعموم المناطق المحتلة عام1967، وفي الشتات في دول الطوق المحيطة بفلسطين والتي يتواجد فوق أراضيها لاجئو فلسطين.
علي بدوان/أيار الفلسطينيين
15
المقالة السابقة