عندما يجد جنرالات الجمهوريات أنفسهم يواجهون استحقاقات عاجلة للشعوب العربية على الصعيدين الاقتصادي والنهضوي، كالتنمية البشرية وتوفير أبسط المستلزمات من مأكل ومشرب ووقود وطاقة، يلجأون فوراً إلى استحضار بعبع “الإرهاب”، للتغطية على فشلهم وخيبتهم في تلبية حاجات الناس، خاصة التي ثارت، وهدأت مبدئياً بانتظار الإصلاحات التي وعدت بها الأنظمة القادمة.
لاحظوا الآن: هناك شعوب أسقطت حكاماً بعد عقود من الطغيان، وهي على وشك اختيار حكام جدد تعتقد أنهم أفضل من الساقطين، دون أن تدري أنهم نسخة طبق الأصل عن الذين أسقطتهم، وربما أفظع وأوحش وأفسد بمرات ومرات، خاصة أن معظمهم قادم من المؤسسة العسكرية البليدة، الفطنة فقط للأذى والطغيان، كما وصفها الشاعر اليمني محمد محمود الزبيري، والتي لم تجلب سوى المصائب والكوارث لبلداننا منذ عقود. والمشكلة أن بعض الشعوب لم يتعلم الدرس بعد. في البداية ثارت الشعوب مطالبة بإسقاط حُكم العسكر بعد ممارساته الفاشية بحق الأوطان على مدى عشرات السنين، وبعد الفشل الذريع في تأمين أبسط مستلزمات الحياة من خبر وماء وكهربا، فما بالك بتحقيق تنمية بشرية أو اقتصادية أو نهضوية يباري بها الدول التي قطعت أشواطاً كبرى على صعيد التقدم والازدهار.
لكن من الواضح أن الذاكرة الشعبية في بعض بلداننا قصيرة جداً، فما أن أسقطت الشعوب بعض أنظمة الجنرالات، واحتفلت بسقوطهم، وداست على صورهم في الميادين والساحات والشوارع، حتى عادت تطبل، وتزمر لنسخ جديدة مكررة من هؤلاء الطواغيت لمجرد أنهم داعبوا مخيالها العاطفي ببعض الشعارات “الوطنجية” الممجوجة عبر وسائل إعلام تفننت، ومازالت تتفنن في صناعة الكذب والأساطير والخرافات للضحك بها على ذقون الشعوب المسكينة.
لقد نجحت بقايا الأنظمة الساقطة في بعض الدول في استعادة مقاليد السلطة بسرعة رهيبة، أولاً بفعل قوة الدولة العميقة المتغلغلة في أعماق المؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية، وثانياً بدعم ماكينات الكذب الإعلامية الرهيبة التي استطاعت بسرعة قياسية تصوير الأسود أبيض، والأبيض أسود وسط تصفيق المغفلين والمضحوك عليهم. لكن مهما طال، يبقى حبل الكذب قصيراً، مهما نجح الجنرالات والمؤسسات العسكرية والأمنية في تطويله والتحكم به. الآن يواجه الطغاة الجدد القادمون من رحم المؤسسات العسكرية والأمنية، يواجهون استحقاقات كثيرة تطلبها الشعوب. ولو نظرنا إلى تلك الاستحقاقات لوجدناها غاية في البساطة، فالملايين من شعوبنا باتت تطالب بتوفير لقمة الخبز، وكأس الماء النظيف، وحبة الدواء، وضوء الكهرباء. لكن على بساطتها، تجد الأنظمة الجديدة التي يقودها جنرالات العسكر والمخابرات، تجد صعوبة كبرى في تأمينها. وبالتالي، فهي تواجه حرجاً شديداً مع الشعوب التي صفقت، وطبلت، وزمرت لها. كيف يواجه الجنرالات مطالب الشعوب التي ثارت، وصدقت وعودهم في بناء مجتمعات جديدة قائمة على العدل والديمقراطية؟ لاشك أن العسكر المتدثرين زوراً وبهتاناً بالثوب الديمقراطي الفضفاض، أضعف من أن يلبوا أبسط الحاجيات، لأنهم يجترون نفس أساليب الحكم منذ منتصف القرن الماضي دون تحقيق أي تقدم على أي صعيد. لكن، يجب ألا تستهينوا بذكاء الجنرالات، فهم أساتذة في فن الضحك على الناس، وتخديرهم، وحرف أنظارهم عن قضاياهم المصيرية وحتى حاجياتهم اليومية. وجدتها، وجدتها: فلنستحضر “الإرهاب”. إنه الخدعة والكذبة الأفضل للالتفاف على الاستحقاقات الشعبية.
إن القضية الأهم للكثير من بلادنا الآن هي التنمية والنهوض الاقتصادي للوفاء بمتطلبات الشعوب، لكن جنرالاتنا يفبركون الأعذار للتهرب من تحقيق التنمية البشرية والاقتصادية بشكل مفضوح. فبدلاً من تأمين لقمة الخبز، والعيش للناس، يخلقون لهم بعبعاً يخوفونهم به للتملص من مطالبهم.
عندما أدرك الطواغيت الجدد أنهم غير قادرين على تحقيق طموحات الشعب، راحوا الآن يصنعون له عدواً داخلياً وهمياً، وبدأوا يجيّشون ضده كل الطاقات، وأخذوا يحاربونه، ويشيطنونه بضراوة شديدة كي يحرفوا أنظار الشعب عن خيبتهم، وعدم قدرتهم على تحقيق أي إنجازات حقيقية للناس. وهذه طريقة سهلة يضحكون بها على الجماهير، فكلما طالبهم الشعب ببعض الاستحقاقات المشروعة، يقولون له: “نحن في معركة ضد “الإرهابيين”، وعليك أن تقف معنا، وعندما ننتهي من معركتنا الأهم ضد الإرهاب، سنحقق لك مطالبك”. ولاشك أن هذا الوضع المفضوح سيستمر سنوات وسنوات، وهؤلاء الجنرالات يضحكون على شعوبهم. أما الشعوب فتصمت عن المطالبة بحقوقها مرغمة، خوفاً من اتهامها بمساندة الإرهاب. يعني باختصار، فإن الذين راحوا يتاجرون بـ”الإرهاب” من جديد، ويستخدمونه ذريعة وفزاعة للتهرب من تلبية المطالب الشعبية، هم عملياً يطبقون الشعار القديم الحقير والمفضوح: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، لكن هذه المرة ضد “الإرهاب والإرهابيين” المزعومين. والشعب ينتظر، ويتألم، ويسكت. وعدوا الشعوب الثائرة بالكباب، فلم يستطع جنرالات الإرهاب حتى توفير التراب، فتذرعوا بمحاربة الإرهاب.
فيصل القاسم/جنرالات الإرهاب!
13