كان ذلك منذ نحو شهر وأكثر، وكانت المناسبة اجتماعاً لقادة التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين في اسطنبول، والمتحدث كان الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة التونسي. أما الموضوع الذي نحن بصدده، فهو ذلك النقد اللاذع الذي وجهه الغنوشي؛ أحد أبرز وجوه الجماعة العابرة للحدود، عبر مذكرة مكتوبة لم يتم توزيعها على قادة التنظيم في حينه، إلى سلوك إخوانه في مصر خلال فترة توليهم سدة الحكم في بلد التسعين مليوناً، وتحميل مكتب الإرشاد مسؤولية ضياع السلطة من بين أيديهم، وإدخال تجربتهم في محنة كبرى.
ومع أن هذا الحديث/ المذكرة، لم يلق ما يستحقه من اهتمام بعد، فإن ذلك لا يقلل من وقع دوي القنبلة السياسية التي فجرها شيخ حزب النهضة المستنير فكراً وممارسة. كما أن تجاهلها من جانب المخاطبين بها في نحو سبعين بلداً، وصمتهم الغاص بالحرج عما احتوته المذكرة من اتهامات بالجملة لأداء الجماعة الأم في عام تربعهم على عرش مصر، لن يؤدي إلى طي هذه الورقة، واعتبارها شيئاً كأنه لم يكن.
ذلك أن هذه المذكرة التي أخذت تتسلل إلى منابر الإعلام مؤخراً، وتلقى بعض التعليقات المفعمة بروح التشفّي، تستمد أهميتها من وزن صاحبها الذي لا يمكن التشكيك في انتمائه إلى الشجرة الإخوانية، ولا نعته بأي من الأوصاف التي درج المتحدثون باسم الجماعة على إلصاقها بكل من يبدي انتقاداته لنهجها الإقصائي؛ من التخوين إلى التكفير والزندقة. وفوق ذلك، فإن هذه المذكرة التي باتت الآن ملكاً للرأي العام، صيغت بروح المحب، وانبنت على حس شديد بالمسؤولية.
وبقدر ما شكّلت الكلمات الصريحة المباشرة، الصادرة عن أحد أبرز أركان التنظيم الدولي، من صدمة عميقة لسائر المتحدثين باسم الجماعة داخل مصر وخارجها، بدليل كل هذا الصمت والتجاهل إزاء ما حفلت به المذكرة من انتقادات ثقيلة، بقدر ما شكّل هذا النص الفريد من نوعه، من دهشة واسعة لدى خصوم الجماعة، ولدى من كانوا يخشون جلب التهجمات اللفظية لهم، إذا وجهوا ذات يوم نقداً طفيفاً لموقف متشنج هنا، أو تصريح متوتر هناك، فها هو الشيخ الذي يرى أبعد من حدود أنفه، يشهد شهادة من رأى الصورة الداخلية بأم عينيه.
لو كان المقام يتسع، لجشمنا أنفسنا عبء قص ولصق جل ما في هذه المذكرة المثيرة للسجال المفيد. ولذلك، سوف نستعيض عن ذلك بانتخاب بعض الجمل والمفردات التي حفلت بها مذكرة الشيخ الغنوشي؛ مثل وصفه لقيادة الإخوان في مصر وسياساتهم بأنها كانت مرتبكة ارتجالية وصبيانية، أدت إلى خسارتهم مقاليد الحكم بسرعة؛ وقوله إنه خاطبهم ووجههم، نصحهم وحذرهم، ولكن لا حياة لمن تنادي. فقد كانت غايتهم، والقول للغنوشي، احتكار السلطة والمناصب، فاستأثروا بها بطريقة أكثر فجاجة من طريقة نظام حسني مبارك، فسيطر عليهم الغرور، مع أن تجربتهم في إدارة الدولة كانت معدومة.
وفي المذكرة الباعثة على الاحترام لصاحب هذه العقلية المتفتحة والرؤية العميقة، فقرات تخص حركة حماس؛ إذ كشف الشيخ الغنوشي أنه كان وراء التحول الراهن في موقف “حماس” من المصالحة الفلسطينية، وأنه الرجل الذي ضغط على تنظيم الإخوان المسلمين لترك المجال أمام الحركة الفلسطينية المحاصرة في غزة، كي تعيد ترميم علاقاتها المدمرة، بعد الفشل الذي مني به التنظيم في مصر، وانضمامها إلى منظمة التحرير عوضاً عن الحلول محلها وفق ما كان يصر عليه مكتب الإرشاد، الذي توهم في زمن “الربيع العربي” أن الجماعة باتت تمتلك القوة المسيطرة في المنطقة.
وأحسب أن الاختصار الاضطراري لمضمون المذكرة، لا يغني عن قراءتها، لاسيما أنها المرة الأولى التي يتاح فيها للعموم إلقاء نظرة خاطفة على جانب صغير من السجالات الداخلية في أعلى قمة هرم جماعة الإخوان المسلمين، وجلاء قسط ضئيل من مشهد يتسم بالتكتم، والانغلاق على الذات، إلى الحد الذي كان يصعب معه فهم كل هذا الاستعلاء عن الواقع، وشيوع حالة ضيق الصدر لدى الجماعة إزاء شركائها الموضوعيين، وحيال أبنائها الذين يحاولون كسر الصمت ويرغبون في إجراء المراجعات الفكرية، على نحو ما حدث لجماعة “زمزم” مؤخراً.
عيسى الشعيبي/قنبلة الشيخ الغنوشي
19
المقالة السابقة