في بدايات التحول الديمقراطي المشوب بالمراوغات والالتباسات، وفق ما بدا عليه المشهد في المنطقة العربية، ومع اتساع المطالب الشعبية بالإصلاح والتغيير، التي اشتد زخمها في خضم “الربيع العربي”، بدا صندوق الانتخابات بمثابة علبة سحرية مليئة بالحلول المدهشة، لكسر حالة الانسداد المديدة، ولحل معضلة الانتقال من عهد الاستبداد والفساد إلى مرحلة الديمقراطية، وسط موجة عارمة من التفاؤل، وارتفاع هائل في درجة التوقعات لدى شعوب أعياها انتظار بزوغ فجر الحرية الذي أضاء مشارق الأرض ومغاربها.
كما بدا خيار الانتخابات على أساس تعددي، من وجهة نظر النخب الفكرية والقوى الوطنية والديمقراطية، ناهيك عن جماعات الإسلام السياسي، كخشبة خلاص منشودة، لإنهاء حالة التصحر السياسي القائمة، واللحاق بموجة التغيير الديمقراطية التي وقفت خارج أعتاب المنطقة العربية، تحت وهم أن الفرصة قد سنحت أخيراً لتحقيق مبادئ تداول السلطة سلمياً، وتوسيع قاعدة المشاركة في الحكم، وإنجاز التطلع القديم إلى بناء دولة المواطنة والحقوق الفردية المتساوية أمام القانون.
غير أن الحصيلة التي لم تكتمل فصولها بعد، خيبت آمال النخب، وقوضت رهاناتها على مسار التحول الديمقراطي هذا، جراء ما شاب عملية التحول هذه من إخفاقات شديدة، وما لحق بها من ارتكاسات عديدة، كانت تتفاقم أكثر فأكثر مع كل مرحلة انتقالية جرت في هذا البلد العربي أو ذاك، راحت ترتد فيها مخرجات هذه المرحلة المتعثرة على الشعوب المخاطبة بها، في صورة مزيد من اليأس والإحباط، والفوضى والإفقار. وهو شعور تولى التعبير عنه بعض المثقفين، ممن أخذوا يتحدثون عن نظرية المؤامرة، ويرجمون الثورات العربية بأقذع الكلام.
ومع أنه يمكن إحالة الإخفاق الذي واكب عملية الانتقال الديمقراطي إلى عدد وافر من الأسباب الوجيهة، مثل افتقار شعوبنا إلى ميراث حضاري صالح للاستلهام في هذا المجال، ومن ثم الافتقار إلى ثقافة ديمقراطية حقيقية، وتطور اجتماعي مؤهل للبناء عليه، إلا أن تلك العوامل السلبية، التي لا يمكن دحضها بسهولة، لم تكن كافية لتبرير كل هذا الإخفاق، من غير أن نضيف لها متغيّراً جديداً آخر، قوامه دخول الإسلام السياسي على خط هذا التحول، وركوبه مركب الديمقراطية التي طالما اعتبرها أمراً مخالفاً للشريعة، كوسيلة متاحة لاستلام دفّة الحكم والانفراد به إلى الأبد.
ولعل ما حدث في العديد من البلدان العربية، التي شهدت في السنوات القليلة الماضية سلسلة انتخابات عامة تصدرها الإسلام السياسي، وبدا كأنه امتلك خلالها زمام التحول الديمقراطي المرغوب فيه، هو الدليل بعينه على السبب الرئيس الكامن وراء هذا الإخفاق لتجربة واعدة. إذ لعبت نوازع الاستئثار بمغانم السلطة، مع الارتجال وانعدام الخبرة، وغير ذلك الكثير من المثالب، دوراً في تبهيت الصورة أولاً، ثم النفور منها لاحقاً؛ الأمر الذي عجّل في سقوط من لبسوا ثوباً ليس لهم، وفي حدوث ما يشبه حالة الردة عن مثل هذه التجربة المجهضة في مهدها على أيدي الدخلاء عليها.
وأحسب أن التسلق على حبال مرحلة التحول الديمقراطي، من جانب قوى أصولية ذات ميول فاشية، وظنها أن صندوق الانتخابات هو مبتدأ الديمقراطية وخبرها، باعتبارها الأداة الموصلة إلى سنام السلطة، قد أدى إلى ابتذال الصندوق، وامتهان هذه التجربة؛ وذلك بسَوق حشود من الأميين والأميات والمتعصبين إلى دوائر الاقتراع، وشراء أصوات بعضهم بالمال والأعطيات، ومن ثم ظهورهم في نهاية المطاف بمظهر الممثلين لإرادة الأكثرية الشعبية، وفق القواعد المعمول بها لدى الديمقراطيات الغربية، في الشكل لا في المضمون.
بكلام آخر، فإن الديمقراطية التي ما نزال نتهجأ ألفباءها، ليست مجرد صندوق انتخابات فقط، يجري استخدامه لمرة واحدة وأخيرة، كأنه عود كبريت؛ وإنما هي عملية طويلة ومستمرة (Process) وليست حدثاً (Action)، وذلك على نحو ما بدت عليه الانتخابات العربية مؤخراً، سواء ما جرى منها على كرسي متحرك، أو حدث في ظل تخندق مذهبي وخطاب طائفي فاقع، ناهيك عما سيجري في سورية عما قريب، من “عرس” ديمقراطي يدعو إلى السخرية والرثاء، إن لم نقل إنه قمة المهازل الانتخابية على الإطلاق، ثم يقولون لك هذه هي الديمقراطية، وهذا منطق صندوق الانتخابات.