يتكون قطاع الطاقة من عدد كبير من المفردات تنضوي تحت مجموعات ثلاثة: الأولى تتعلق بالمصادر و تشمل الغاز والنفط الخام و الديزل والزيت الثقيل والفحم والصخر الزيتي والطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة المائية والطاقة النووية. و الثانية تشغيلية تتناول النقل والتوليد والتوزيع وإدارة الأحمال ورفع الكفاءة وترشيد الاستهلاك وإحلال البدائل والتأثيرات البيئية. و الثالثة اقتصادية سياسية إدارية تتعلق بالاستثمار والشركات والقوى العاملة و المواد الخام وكلفة الإنتاج والإرباح والخسائر والأسعار وقدرة المستهلك على تحمل الأسعار التي تفرض عليه وغير ذلك الكثير. وهكذا فالطاقة ليست مجرد سلعة بسيطة تباع و تشترى،وإنما هي قطاع مركب ومعقد بالمفهوم الاقتصادي الاجتماعي ، يبدأ باحتياجات المواطن والمدرسة والمستشفى في قرية صغيرة، لينتهي بأكبر المشاريع وأحدث الأجهزة والمعدات،والتي يقوم على استمراريتها و كفاءتها سلامة المجتمع بأسره و قدرته على التطور.
لقد عمل أسلوب الخصخصة البعيد عن العلمية و الشفافية و التبصر، وغير المنسجم مع المتطلبات الوطنية لقطاع الطاقة على تقطيع أوصال القطاع، وبعثرة مفرداته، بشكل أدى إلى نتائج رئيسية ثلاث. الأولى ارتفاع الكلفة على المستهلك نتيجة لتعدد الحلقات و الوسطاء والشركات، والثانية ضبابية الرؤية المستقبلية على مستوى المفردات المختلفة. والثالثة عدم الإفادة من الفرص المتاحة، واستمرار أزمة تحملية الطاقة وإلقاء العبء على المستهلك.
كانت الفكرة الأساسية وراء الخصخصة تتمثل في تخفيض الكلفة، ورفع كفاءة الإدارة، و أمثلية الإنتاج، و المنافسة السليمة بين المفردات التي يتألف منها القطاع. والنتيجة التي وصلنا إليها أن المرافق الوطنية تم بيعها لمستثمرين بأسعار غير عادلة، وأن الكلفة لم تنخفض، والإدارة لم تتحسن، وأن المتنافسين وقعوا على عقود تضمن لهم الأرباح من الدولة. وبالتالي أصبح إرضاء هؤلاء يلعب دوراً كبيراً في السياسات والقرارات. فحين تتعاقد الحكومة مع شركة لبناء محطة كهربائية تعمل بالغاز أو الديزل و هي تعلم أن الغاز غير متاح و الديزل عالي الكلفة، فإن على الحكومة أن تضمن لها حجم المبيعات وتضمن لها الأرباح بغض النظر عن أي شيء آخر. وهذا يعني أن مصلحة هذه الشركة تتمثل بعدم قيام أنظمة بديلة قد تكون أقل كلفة و بالتالي إضاعة الفرص التشغيلية والصناعية والتكنولوجية الأكثر إقتصادية. ومن جهة ثالثة فإن تعدد الحلقات ترك الكثير من الثغرات مفتوحة. فهذه مصفاة البترول و شركة الكهرباء الوطنية لا تعرف أي منها مستقبل علاقتها و لا جدوى استثماراتها على المدى المتوسط أو البعيد بعد أن انتهى عقد الإمتياز.
ماذا استفاد المواطن من خصخصة القطاع وتمزيق أوصاله على هذه الطريقة؟ بل انه نتيجة للعقود التي أبرمت مع الشركات تأخر إدخال الطاقة المتجددة بسبب القيود المتعلقة بهذه العقود. لقد تحوّل العمل في قطاع الطاقة إلى مجرد “حالة استثمار” وأزيلت عنه صفة الإستراتيجية والأمن الاجتماعي والتأثير على القطاعات الاقتصادية والخدمية بكاملها.
أما هيئة الطاقة النووية فهي تعمل بمفردها ولا تعتبر نفسها جزءاً من منظومة الطاقة الوطنية إلا بالاسم. وهي لا تأبه بالمتغيرات التي تحيط بالقطاع والمنطقة ،ومصرة على الاستمرار في بناء محطة كهرباء نووية لم يعد لها مبرر على ضوء انطلاق مشاريع الصخر الزيتي، و التقدم التكنولوجي و الإقتصادي الهائل في الطاقة الشمسية. و “المحطة النووية ليس لها مقومات السلامة والأمان لاستحالة توفير المياه اللازمة في حالة الحوادث النووية بعد أن استقر خيار الهيئة أن تكون المحطة في عمق الأراضي الأردنية”. ولا يعني الهيئة أن قطاع الطاقة المتجددة يتطور تكنولوجيا واقتصاديا على مستوى العالم بسرعة مذهلة. ويصبح من الممكن اليوم إنشاء محطات طاقة شمسية بقدرة (450) ميغا واط مثلا خلال (18) شهراً وبتصنيع محلي يصل 35% وباستثمارات تضعها الشركات المزودة أو شركات مساهمة عامة تقوم لهذه الغاية. وتتحدث هيئة الطاقة النووية عن اليورانيوم وهو ليس من اختصاصها ولا ضمن إمكاناتها الفنية، وتعطى معلومات غير دقيقة عن الاحتياطي و التركيز وعن الإنتاج و الكلفة، ولا يتم تصحيح تلك المعلومات بعد أن يتبين للجميع خطأها. بل و توحي بأن من يعارض المحطة النووية فإنه مدفوع من إسرائيل،و تقول في حملاتها الدعائية أن المواطن سيشتري الكهرباء النووية بأسعار زهيدة جدا و هو أمر غير دقيق.
و من جانب آخر،يجري الحديث عن رفع كفاءة الاستهلاك في قطاعي الكهرباء و النقل اللذين يستهلكان من الوقود (2800) مليون دينار سنوياً و قطاعي الخدمات والصناعة، ولكن دون وجود برامج حقيقية يعلمها الجمهور، تتعلق بالسكة الحديد ،أو النقل العام المنتظم، أو مؤسسات فنية تكنولوجية متخصصة ،أو مجموعات مدربة من المهندسين والفنيين، تفحص المواد والمعدات قبل دخولها وتصدر شهادات للأجهزة والمباني والمعدات بأنها متناسقة مع متطلبات البيئة الخضراء والطاقة الأكثر اقتصادية وطنياً وفردياً.
وإذا كانت دول الجوار لم توافق على إنشاء المحطة النووية على ساحل العقبة وهو موقعها الطبيعي، فما الذي يمنع المباشرة الآن بإنشاء محطة شمسية في العقبة بقدرة (600) ميغاواط لتحلية المياه وربط خط المياه من العقبة إلى أقرب نقطة على خط الديسي؟ ومثل هذه المحطة ستكون قادرة على إنتاج (50) مليون متراً مكعباً من المياه أو (50%) من مياه الديسي. أما الانتظار حتى يتم بناء خط ناقل البحرين فمن شأن ذلك أن يوصل الأردن إلى نقطة الاختناق في المياه.
من الذي يخطط لكل هذا وكيف يتم صنع القرار في قضايا حيوية لا يمكن القفز عنها. ولا يمكن تأجيلها؟ في إطار هذه المكونات المعقدة والمتداخلة والمتغيرة باستمرار، ألا ينبغي أن تكون هناك جهة وطنية مركزية تخطط لقطاع الطاقة بمفرداته المختلفة؟ وتتابع التنفيذ وفق برنامج وطني مستقر يراعي المصلحة الوطنية بالدرجة الأولى؟ ولا تخضع هذه المصلحة لأهواء الأشخاص أو مكاسب الشركات أو ضغوط الوسطاء أو غياب الخبرات اللازمة؟ ألا ينبغي أن يكون هناك”عقل جمعي يقوم على العلم والخبرة والجرأة و استشراف المستقبل” يتناول موضوع تخطيط الطاقة التي تكلف الاقتصاد الوطني (3600) مليون دينار سنوياً وتكلف المواطن أكثر من (8%) من متوسط دخله السنوي وتشكل العصب الرئيسي للحياة الحضارية المعاصرة؟؟
نحن بأمس الحاجة إلى” إنشاء مجلس أعلى للطاقة” يضم مجموعة من الخبراء والفنيين والعلماء و الإقتصاديين والاستراتيجيين الذين يستطيعون رؤية المستقبل ويعملون بدأب وتواصل. و تكون للمجلس سلطة قانونية ملزمة في تطوير الإستراتيجيات الوطنية للطاقة بكاملها، و يتابع تنفيذ الخطط والبرامج بما يحقق الحالة الأفضل للوطن والمواطن و لهذا القطاع.
د.ابراهيم بدران/قطاع الطاقة … ضبابية التخطيط والتنفيذ !
15
المقالة السابقة