أوضاع مصر المقلوبة وضعتنا أمام المفارقة العبثية التالية: أداؤنا في الداخل أصبح أكثر ما يشوه صورة مصر في الخارج، والجهود التي باتت تبذل لتحسين الصورة في العالم الخارجي أصبحت تخاطب الداخل وليس الخارج! هذا المنطوق الذي يبدو صعب التصديق يحتاج إلى شرح. ذلك أن أي متابع للأصداء التي ترددت في أنحاء العالم لأحكام الإعدام الأخيرة التي شملت أكثر من شخص سيجد أنها تحولت إلى فضيحة عالمية شكلت مع الأحكام التي سبقتها بإعدام 500 آخرين إساءة إلى نظام مصر القائم وليس للقضاء المصري وحده. ذلك أنني لا أعرف مسؤولا في حكومة أو منظمة دولية أو في أي منبر إعلامي محترم إلا وأعرب عن صدمته واستهجانه لتلك الأحكام.
أزعم بأنه مع استمرار ذلك الأداء المشين، فإن خصوم النظام الحريصين على تشويهه وتيئيس الناس لن يكونوا بحاجة لبذل أي جهد للتآمر من جانبهم، لأن الأداء في الداخل كفيل بتحقيق مرادهم. وهو ما عبر عنه وزير الخارجية البريطاني وليام هيج حين قال في (28/4) إن الأحكام لا تضر فقط بسمعة القضاء المصري وإنما من شأنها أيضا أن تقوض الثقة الدولية بشأن الإصلاح والديمقراطية بمصر، فقد وصفت صحيفة واشنطن بوست الوضع في مصر بأنه أكثر الأنظمة التي عرفتها قمعا منذ نصف قرن (استفتاحية عدد الأربعاء 1/5)، وفي نفس اليوم أعلنت منظمة العفو الدولية على حسابها الرسمي على موقع تويتر أن قضاة مصر يخاطرون بجعل أنفسهم جزءا من آلة القمع، من خلال قيامهم بإصدار أحكام الإعدام والسجن مدى الحياة بشكل جماعي. وقد حان الوقت لكي تبرئ السلطات المصرية نفسها وتقر بأن نظام العدالة الحالي ليس عادلا ولا مستقلا أو محايدا، ذلك أن المحاكمة الجائرة التي جرت مؤخرا تعد بداية انتقاص من العدالة وسخرية منها.. كما أن أحكام الإعدام كشفت عن مدى التعسف والانتقائية الذي وصل إليه نظام العدالة الجنائية في مصر، حين عبر عن ازدراء كامل بأبسط المبادئ الأساسية المتعلقة بالمحاكمة العادلة.
انتقادات الصحف البريطانية (الجارديان والتايمز والتلجراف) ربما بدت مفهومة، بحكم الاحترام البريطاني التقليدي بالوضع المصري لأسباب تاريخية مفهومة، لكن استفاضة الصحف الألمانية في التعليق على الحدث ذاته تبدو مثيرة للانتباه، من حيث إنها تصور حجم الصدمة في الدوائر الغربية، وقد عرضت بوابة «الشروق» في 30/4 نماذج من تلك الأصداء الألمانية التي عبرت عنها الصحف وأطلقت فيها الأوصاف التالية على الوضع القائم في مصر.
صحيفة ميركشه أودر تسايتونج: لا علاقة للحكم الصادر (عن محكمة المنيا) بالعدالة المستقلة. وما يحدث في مصر هو ببساطة استقلال للسلطة القضائية لتحقيق أهداف سياسية، وهذه الأحكام حتى إذا تم تخفيفها فإنها لا تساعد على السلم والأمن، وإنما تزرع اللاسلم والغضب في مصر الممزقة.
<نويس دويتشلاند: لا مبالغة في القول بأن القضاة صاروا مجرد بيادق في رقعة شطرنج وجنرالات الجيش.
<زود دويتشه تسايتونج: القضاة أصبح بمثابة ماكينة لإصدار أحكام الإعدام والصراع لن يخرج فيه أحد منتصرا. وهذا الأداء من شأنه أن يفقد الثقة في جهاز القضاء كمؤسسة مدنية، ومن ثم فإنه لن يساهم في تمهيد الطريق لتحقيق الاستقرار.
<فرانكفورته الجمانيه: في مصر الآن لم تعد العدالة تحمي القانون، وإنما أصبحت تحمي النظام.
<فيزر كورير: الأحكام رسخت صورة لمصر باعتبارها بلدا يسوده الاستبداد وليس القانون.
والقضاء بالأحكام التي صدرت عنه صار مدعاة للسخرية، الأمر الذي أساء إليه وشوه سمعته.
<دي تاجستسا يتونج: القضاء المصري هو من يجب أن يقف في قفص الاتهام، لأنه في الوقت الذي أصدر فيه مئات الأحكام بإعدام معارضي النظام، غض الطرف عن ضحايا فض الاعتصام وبرأ المتهمين بقتل نحو ألف شخص قتلوا أثناء الثورة في عام 2011.
لا نستطيع الادعاء بأن مثل هذه الأصداء مفتعلة وأنها مدفوعة الأجر أو من تجليات الأخونة والاختراقات، وهو التفسير السهل الذي يمليه منطق خداع الذات، ولكننا ينبغي أن نعترف أولا بأنها أصداء حقيقية وثانيا بأنها كفيلة بنسف كل جهد يبذل لتحسين صورة مصر في الخارج (لا تسأل عن الداخل)، ومن ثم إزالة كل أثر للجولات الدبلوماسية ورحلات الوفود الشعبية التي يتم إيفادها إلى بعض العواصم الأوروبية للدفاع عن الوضع القائم وتجميل صورته.
في الوقت الذي نبعث فيه بتلك الرسالة السلبية إلى الخارج، فإن الرد الذي يجيب على تساؤلات الغربيين يتلخص في الادعاء بأن القضاء مستقل وأن السلطة لا علاقة لها بممارسته، وهو الادعاء الذي تبرزه الصحف المصرية في الداخل، في حين لم يعد أحد يصدقه في الخارج. والنصوص التي أوردتها تشهد بذلك. النتيجة أننا صرنا ندغدغ المشاعر ونطمئنها في الداخل بحكاية القضاء المستقل، ونحن نعلم جيدا أن تلك مقولة تعذر تسويقها في الخارج.
ليس الخارج هو ما يشغلني أو يقلقني بطبيعة الحال، رغم أن المفارقة استوقفتني، لأن أكثر ما يهمني هو المدى الذي بلغه تراجع الثقة في الداخل بعدما صار القضاء يستخدم في حسم الخلافات وتصفية الصراعات الداخلية، خصوصا بعد الإسراف في تقديم البلاغات الكيدية ونظرها أمام محاكم الأمور المستعجلة التي كانت دائما وراء القرار السياسي وليس بعيدا عنه، وهو المناخ الذي فتح الأبواب للتنكيل بالذين دافعوا منذ أربعين عاما عن استقلال القضاء لأنهم دعوا إلى استقلال حقيقي في حين أن ضغوط السياسة والأمن تريده استقلالا صوريا و«تايوانيا»، إذا استخدمنا المصطلح الشائع.
حين وقف رئيس المحكمة الدستورية في تركيا هاشم كيليتس في الأسبوع الماضي وهاجم بشدة وقسوة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في حضوره منتقدا الإجراءات الحكومية بحق القضاء حتى اتهمه بـ«فساد الضمير». وقتذاك عرفنا أن في تركيا قضاء مستقلا وهو ما لا نستطيع أن نؤكده في مصر الحالية. ومن لديه ما يثبت، غير ذلك فليدلني عليه.