حسم الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) أمره وانحاز لخيار المصالحة الوطنية دون أن يعبأ بالضغوط الصهيوأمريكية والتي وصلت إلى حد اتخاذ إجراءات عقابية ضد السلطة في رام الله وهو أمر يحسب له في ظل المعطيات الراهنة التي لم تعد فيها القضية الفلسطينية تتصدر المشهد العربي اهتماما وبحثا واجتماعات وهو الأمر الذي باتت تحظى به أزمات إقليمية في مقدمتها الأزمة السورية وانشغال أغلب الدول المحورية وفي مقدمتها مصر بمفردات واقعها وبالذات على صعيد ترتيب البيت الداخلي وفق محددات خارطة المستقبل والتي دخلت حيز التنفيذ بالفعل.
لقد حاولت الضغوط الصهيوأمريكية وضع أبو مازن بعد التوقيع بين فتح وحماس على تفعيل اتفاقيات المصالحة الموقعة من قبل في القاهرة والدوحة ومكة المكرمة بين شقي الرحى فإما أن يقبل بالمصالحة أو البقاء في خانة ما يسمى بالمفاوضات مع الكيان الذي أعلنت حكومته برئاسة نتنياهو وقفها رغم أنها عمليا لم تنجز – رغم مضي التسعة أشهر المحددة لها والتي تنتهي غدا الثلاثاء -أي اختراق جوهري ينبئ عن تحقيقها تقدما ولو محدود باتجاه بلورة حل نهائي للقضية الفلسطينية والصراع مع الكيان وفق محددات الشرعية الدولية والمرجعيات المتفق عليها. لكن الرجل وأقصد به أبو مازن – لم يخذل شعبه فاختار المصالحة فهي وحدها القادرة على تحقيق السلام لأنه من دونها واستمرار حالة الانقسام والاحتقان السياسي والأمني والجغرافي منذ أكثر من سبع سنوات أضر بالقضية الفلسطينية ولم يوفر لها حزام أمان وطنيا وهو ما كان الكيان الصهيوني يعمل دوما على توسيعها ويمارس الضغوط تلو الضغوط لبقائها مفعلة على الأرض بأساليب عدة وللأسف كان الجانبان – فتح وحماس – يتجاوبان سواء بقصد أو بدون قصد لاستفزازاته فتنشأ الحروب الإعلامية عقب أي اتفاق للمصالحة وسرعان ما يدخل النفق المظلم.
ورغم تأكيد الرئيس عباس بعد توقيع اتفاق غزة على عدم وجود تناقض بتاتا بين المصالحة والمفاوضات مع إسرائيل، كون المفاوضات هي من صلاحيات منظمة التحرير الفلسطينية وليس من صلاحية حكومة السلطة وعلى هذا الأساس وافقت حماس المعارضة للمفاوضات في السابق وتوافق الآن على المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة أبو مازن، يكرر رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو وأركان حكومته تخيير عباس بين “صنع السلام مع إسرائيل وبين المصالحة مع حماس بحجة أنه لا يمكن تحقيق الأمرين، بل أحدهما فقط”.
وتنبئ تصريحات نتنياهو عن أنه قد وجد في اتفاق غزة ذريعة لعدم الاستمرار في المفاوضات تغطي على مسؤوليته عن فشل جولة المفاوضات التي استؤنفت في يوليو الماضي ومن المقرر انتهاؤها يوم غد – التاسع والعشرين من أبريل.
ولكن وفقا لما يقوله “نقولا ناصر” الكاتب السياسي الفلسطيني فإن التطبيق على الأرض يظل هو الاختبار الأكبر لنجاح غزة وهو ما يستوجب من أبو مازن أن يثبت خلال الأسابيع القليلة المقبلة قدرته على مقاومة الضغوط الإسرائيلية والأمريكية التي تستهدف إجهاض هذا الاتفاق والتي أجهضت اتفاقات المصالحة السابقة ’ فضلا عن إثبات قدرته كذلك على تجنب السقوط في فخ أي مناورات أمريكية جديدة لاستئناف المفاوضات مع الكيان بمرجعياتها وشروطها السابقة على غرار الفخ الذي وقع فيه في مؤتمر أنابوليس عام 2007 ثم الفخ الذي نصبه له وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ليستأنف المفاوضات قبل تسعة أشهر.
فتجربة ما يزيد على عشرين عاما من استجابة منظمة التحرير للإملاءات الإسرائيلية – الأمريكية فيما سمي “عملية السلام” أثبتت أنها كانت استجابة مجانية لم تكافأ المنظمة عليها لا أمريكيا ولا إسرائيليا. ومن ثم فإن توقيع اتفاق غزة والذي يشكل الإطار التنفيذي لاتفاق القاهرة في مايو الماضي عام 2011 وإعلان الدوحة العام التالي الموقعين للمصالحة بين المنظمة وحماس يضع في حال الالتزام بتطبيقه نهاية حاسمة لأي حديث فلسطيني عن احتمال حل السلطة الفلسطينية ويحول حلها إلى هدف إسرائيلي تهدد دولة الاحتلال به لإجهاض المصالحة في مهدها.
ولاشك – الكلام مازال لنقولا ناصر – أن الاتفاق على تأليف حكومة موحدة للسلطة الفلسطينية وإجراء انتخابات لمجلسها التشريعي ورئاستها هو بالتأكيد اتفاق على تعزيز هذه الحكومة على نحو يستبعد أي حل لها من الجانب الفلسطيني وفقا لما جرى التلويح به مؤخرا كواحد من الردود على فشل المفاوضات الثنائية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي برعاية أمريكية، ليظل حلها مشروعا تهدد دولة الاحتلال بوضعه موضع التنفيذ في حال قررت أن هذه السلطة لم تعد تخدم أغراضها وأهدافها.
ويتضح من ردود فعل دولة الاحتلال وراعيها الأمريكي على توقيع اتفاق غزة لإنهاء الانقسام والتمهيد لتأليف حكومة موحدة وإقامة نظام سياسي واحد وإنشاء قيادة واحدة ووضع برنامج وطني متفق عليه أن دولة الاحتلال تجد في هذا الاتفاق ذريعة لحل السلطة أو في الأقل لشلها بالعقوبات والحصار.
والمؤكد أن أبو مازن ومنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة في حاجة إلى إسناد عربي حقيقي وفعال حتى يكون بمقدوره مواجهة التحديات التي يفرضها التحالف الصهيوأمريكي والذي لن يتورع عن استخدام أي وسيلة بما في ذلك رفع سقف عدوانه وإجراءاته الأمنية العنيفة في الضفة وقد يصل الأمر إلى اجتياح جديد لها على غرار ما فعله السفاح أريل شارون ردا على المبادرة العربية للسلام في العام2002 ثم محاصرته لمقر رئاسته المسمى بالمقاطعة ثم التخلص منه عبر تسميمه فضلا عن تشديد إجراءات الحصار على قطاع غزة وأظن أن الاجتماع الطارئ لمجلس الجامعة العربية على مستوى المندوبين الذي سيعقد اليوم سيضع ترجمة خطوات الدعم على رأس جدول أعماله حتى لا يشعر الفلسطينيون أنهم يخوضون معركتهم بمفردهم وفي تقديري أن الأمر لا يتطلب سوى تفعيل قرارات سابقة اتخذتها قمة الكويت التي عقدت نهاية مارس الماضي ثم الاجتماع الطارئ الوزراء الخارجية العرب في التاسع من أبريل الحالي وفي مقدمتها الالتزام بالمساهمة في شبكة الأمان العربية للسلطة والمقدرة بمائة مليون دولار شهريا ولو تحقق ذلك إلى جانب الإسناد السياسي والإعلامي في الأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية فإنه سيكون بمقدور أبو مازن أن يقود معركة المصالحة حتى نهايتها.
العزب الطيب الطاهر/تحديات ما بعد المصالحة
12
المقالة السابقة