واقعة اختطاف السفير الأردني في ليبيا فواز العيطان (رد الله غيبته سريعاً)، فتحت العيون والأذهان أوسع من ذي قبل، على صعوبات الوضع المأساوي المتفاقم في البلد الذي تخلص من حكم القذافي وأبنائه قبل نحو ثلاث سنوات، انزلقت في غضونها أحوال الليبيين من سيئ إلى أسوأ، وراح فيها البلد المتخم بالنفط والسلاح والمليشيات يأخذ سمات أفغانية، تنذر بتهديد جواره العربي والأفريقي، وربما تصل نذرها إلى أبعد من ذلك.
وليس من شك في أن هناك جملة من العوامل الذاتية، وسلسلة من العناصر الموضوعية، تضافرت معاً لتحويل ليبيا إلى مستنقع من الفوضى والخطف والإرهاب، وجعلها مصدراً للقلق والصداع الإقليمي والقارّي، من دون أن تلوح في الأفق بادرة محلية لانتشال البلد من محنته المتفاقمة، أو تبدو إشارة على عزم المجتمع الدولي التدخل من جديد، لإنقاذ البلد المضطرب من ذاته، ومحاصرة الحريق المرشح للانتشار في الخارج.
قد يقول كثيرون إن ما يجري في ليبيا هو ثمرة مسمومة من ثمار “الربيع العربي” الذي هللت له الشعوب المقموعة، واستبشرت بمقدماته الأولى، سعياً من هؤلاء المسكونين بنظرية المؤامرة الكونية إلى تعزيز مطارحاتهم الفكرية القائمة على ساق واحدة، وقوامها أن كل ما جرى في العالم العربي كان بفعل فاعل أميركي، استغفل وعي الملايين، وأخرجها إلى الشوارع والميادين وكأنها قطعان، لتقويض الاستقرار، وإضعاف الأمة في مواجهة إسرائيل.
ومع أن هناك بعضا من الفشل الظاهر، وكثيرا من الإخفاق صاحب ثورات الشعوب العربية؛ وصحيح أن هذا الزلزال السياسي العنيف كانت له ارتدادات جانبية، غير ملبية للتطلعات والآمال المعقودة على هذا “الربيع”، إلا أن الحالة الليبية تبدو، مع الأسف، النموذج الأمثل لمهاجمة تمرد الشعوب على جلاديها، إن لم تكن ليبيا هي الرقعة السوداء في ثوب عربي ممزق، وذلك لفداحة ثمن مخرجات هذه الثورة التي اقتلعت أحد أشد النظم العائلية الاستبدادية تخلفاً في العالم كله.
لكن السؤال هو: ما الذي أوقع ليبيا في هذه المحنة المتدحرجة؟ أو ما هو العنصر الأكثر أهمية في دفع الليبيين إلى مثل هذه المتاهة المؤلمة، وجعل حال بلدهم أقرب ما تكون إلى حالة صومالية أشد خطورة، تنذر ببزوغ حالة أفغانية على مقربة من أوروبا؟
أحسب أن هناك أسباباً يمكن رد بعضها إلى افتقار ليبيا إلى مؤسسات الدولة من أساسه، وتعليلها بضعف منظمات المجتمع المدني، وتحميل أخرى لعوامل عشائرية ومناطقية، أو غير ذلك من العناصر الأقل أهمية. إلا أن ذلك كله ليس كافياً لوضع الإصبع على الجرح الحقيقي، المتسبب أكثر من غيره في تحويل ليبيا إلى رقعة جغرافية واسعة وخطرة على نفسها وعلى محيطها معاً، ألا وهو تمكن القوى الأصولية، من سلفيين وجهاديين وإخوان قطبيين، من الإمساك بمقدرات ليبيا، وتوظيفها في خدمة مشروع إسلاموي أوسع نطاقاً.
وكما أدى دخول جماعات الإسلام السياسي على خط الثورات العربية، ومحاولاتها الدؤوبة لاختطاف “الربيع العربي” وجعله منصة لشهوة السلطة الجارفة لديها، إلى وقوع بعض التشوهات، ومن ثم حدوث عدد من الارتكاسات في غير بلد واحد، إلا أن نجاح هذه الجماعات في ليبيا، وتمكنها من القبض على مقدرات البلد الغني، كان هو الجائزة الكبرى، أو قل الفوز الأكبر في مسيرة هذه القوى الراغبة في إقامة قاعدة إمداد تتوسط إقليماً قارياً، أكثر قابلية للتأثير في مجاله من بلد مثل أفغانستان مثلاً.
قد تكون المشكلة التي خلقها الوضع الليبي لبلد بعيد عنه كالأردن، مشكلة مؤقتة وعابرة، ينبغي حلها قي أقرب وقت وبأي ثمن ممكن. إلا أن هذه المشكلة المتفاقمة سوف تشكل ما هو أكثر حدة من صداع نصفي لبلد مجاور مثل تونس التي تتحسب لكل طائرة آتية من طرابلس، ناهيك عن مصر التي ترصد عيونها الاستخباراتية معسكرات تدريب في برقة ودرنة وغيرها من الصحارى الليبية المحاددة، وتتهيأ منذ الآن، لمواجهات قد تكون ساخنة في المستقبل المنظور، لإجهاض ما تعتزم هذه الجماعات ارتكابه، تحت شعار استعادة تلك الشرعية التي أسقطتها إرادة عشرات الملايين أواسط العام الماضي.