قبل نحو أربع سنوات خلت، حاولت، من على هذا المنبر، القيام بجولة رياضة ذهنية قصيرة حول سيماء الإنسان المتطرف في العالم العربي الإسلامي، والولوج من ثم إلى دواخله الفكرية، واستقصاء رؤيته الذاتية لمحيطه الاجتماعي وبيئته العامة، متكئاً في ذلك على مادة صحفية منشورة في صحيفة سعودية، ذكرت اسمها واسم صاحب المادة في حينه. إذ بدت لي تلك المقاربة أشبه ما تكون بغوص في الأعماق، أو أقرب إلى كشف تحليلي “أبستمولوجي” للبنية الفكرية والخلفية المعرفية لمثل هذا الإنسان الهاذي بانطباعات سطحية عما يدور حوله، وهو ما حدا بي إلى إعادة إنتاج مقال جديد في الموضوع ذاته.
غير أن ما كان يعوز تلك المساهمة المتواضعة، هو الافتقار إلى خبرة شخصية مستمدة من تجربة عيانية ملموسة، يمكن البناء عليها. وهو أمر تسنّى لي مؤخراً، عبر صحبة صغيرة؛ اقتصرت على الداعي (وهو صديق قديم، كريم ورائق المزاج) واثنين من المدعووين، كنت أحدهما. وفيما كان المضيف كتلة من اللطف والكياسة، كان ثالثنا مثالاً للإنسان المتطرف الذي لا يشبهنا. وهو ما وفر لي نموذجاً قابلاً للقراءة عن كثب، والوقوف مليا على حدود عوالمه الخاصة، وتمكيني فيما بعد من اختبار صحة ما استقر لديّ من تشخيص سابق عن ماهية حامل السلّم بالعرض هذا.
كان أول ما تيقنت منه بعد جولة حوار يحاكي المناكفة، أن مثل هذا الإنسان الذي يتجنب الكثيرون منا الاحتكاك به عن قرب، ويفرون من أمام سجالاته العقيمة. هو رجل انفعالي ومتعصب لوجهة نظره المتيبسة تماماً؛ لديه أحكام مطلقة وتصنيفات جائرة، يجادل بنزق وضيق أفق، ويفرط في الهجوم على مخالفيه الرأي حد الترهيب الفكري، وأحياناً يتجاوز على محاوريه حدود اللياقة؛ يعتقد أن لديه الحقيقة الكلية الكاملة، ولا يتعفف عن رمي خصومه بتهمة التفريط والخيانة، ناهيك عن الكفر والردة، طالما أنه المؤمن التقي النقي، وغيره من التقدميين والقوميين والليبراليين ملاحدة.
كما وجدت مثل هذا الإنسان المتصبب غضباً وعرقاً وتأففاً، أحادي الرؤية للعالم الذي تديره حكومة عالمية متآمرة على العرب والمسلمين، لم تنفك يوماً عن دس الدسائس لقومه، على الأقل منذ ذلك اليوم الذي تحالف فيه الغرب لإنهاء الخلافة أوائل القرن الماضي. وحدث ولا حرج عن بغضه للحضارة ذات النشأة الكافرة، وعن كراهيته لمخرجاتها الهدّامة؛ من إخاء ومساواة وحرية وديمقراطية، فالجميع متآمرون ونحن الضحايا الأبديون جراء ما نشد عليه بالنواذج، من صحيح رأي ومعتقد ومعرفة، من أصالة واستقامة ورفعة أخلاقية.
على أن أشد ما بدت لي عليه شخصية الإنسان المتطرف من خصال غير حميدة، تتمثل في غلظة القول السائدة في خطابه، وفي حدة الطرح الاتهامي لخصومه، وفي تماديه اللامحدود في الافتئات على معارضيه، بما في ذلك سبهم بأقذع الألفاظ، والاستهانة بهم إلى أبعد الحدود، الأمر الذي يجرد هذا الإنسان، الذي كثيراً ما نرى أمثاله على المنابر وعلى الشاشات وفي المجال العام، من القدرة على التسامح، وأهلية التسامي عن الفوارق الذهنية، مقابل قدرته الفائقة على إنكار الحقائق التي لا تتوافق مع منطلقاته ومعتقداته، باعتبار أن غاياته السامية تسوغ له الإتيان بكل ما من شأنه نصرة الحق الأبلج، والذود عن حياض رؤيته المطهرة من كل دنس.
خلاصة القول المعزز الآن بتجربة ذاتية عابرة، عاينت فيها لحسن الحظ إنساناً متطرفاً لعدة ساعات فقط، أن مثل هذا الإنسان كائن يعيش خارج عصره، لا يعرف من ألوان الطيف غير الأسود والأبيض، ولا يرى الناس من حوله سوى أنهم مؤمنون أو غير مؤمنين؛ يتفنن في كيفية تنفير الناس منه بدلاً من كسب بعضهم إلى صفه، يغرف الوهم من معين عالم مظلم، ويهذر فيما لا يعلم، ليس فقط لأنه أحادي الرؤية فقط، وفقير الثقافة فحسب، وإنما أيضاً لأنه محدود الأفق، انتقائي الحجة، غيبي وحدي ومتعجرف، قلق ومأزوم وهشّ الفكرة، يحتقر الاعتدال ويرى في الواقعية عيباً، وفي العقلانية رجساً من عمل الشيطان والعياذ بالله.
عيسى الشعيبي/في تشخيص ماهية الإنسان المتطرف
19
المقالة السابقة