عروبة الإخباري – تختتم اليوم أعمال ندوة تطور العلوم الفقهية الثالثة عشرة (الفقه الاسلامي: المشترك الإنساني والمصالح) ..تحت رعاية فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتى العام للسلطنة والتي تعقد خلال الفترة من 6 وحتى 9 أبريل الجاري بفندق جراند حياة مسقط خلال فترتين صباحية ومسائية وبتنظيم وإشراف من وزارة الاوقاف والشؤون الدينية بشكل سنوي .. بمشاركة عدد من أصحاب المعالي وزراء الأوقاف والشؤون الدينية وأصحاب السماحة مفتييّ بعض الدول العربية والإسلامية علماء ومفكرين من داخل السلطنة وخارجها من خلال طرح 68 ورقة عمل في مواضيع متنوعة عبر 8 محاور تناولت العدل والمساواة وحقوق الانسان والمشترك الانساني في الفقه الاسلامي ..وغيرها.
* الجلسات الصباحية
حيث قدمت يوم امس خمس جلسات، ثلاث منها صباحية واثنتان في الفترة المسائية، ففي الفترة الصباحية قدمت الجلسة العاشرة من الندوة من خلال ثلاث اوراق عمل .. حيث تناول محورها (حقوق الانسان في المواثيق الدولية والفقه الاسلامي) استكمالا للجلستين السابقتين (الثامنة والتاسعة) يوم امس الاول، وقد تحدث الاستاذ الدكتور فيصل الحفيان حول (مصطلحات حقوق الانسان ومفاهيمها بين الاعلان العالمي والفكر الاسلامي)، كما قدم الاستاذ الدكتور مصطفى رشوم رئيس قسم الشريعة والقانون بكلية الشريعة والاقتصاد في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية قسنطينة، الجزائر ورقة عمل عن (حقوق الانسان في الوثائق الاسلامية)، كما شارك في الجلسة الدكتور اسماعيل الاغبري في ورقة عمل حول (حقوق الانسان من خلال فقهاء عمان)، بعدها تم مناقشة اوراق العمل مع الحضور.
وفي الجلسة الحادية عشرة في اربع اوراق عمل، تناولت محورا جديدا حول (فقه المشترك الانساني عند فقهاء الاسلام) وقد تحدث خلالها الاستاذ الدكتور محمود مصطفى عبود آل هرموش حول (فقه المشترك الانساني في الفقه العماني “ابن بركة”)، وقدم الشيخ الدكتور عبدالعزيز العوضي ورقة عمل حول (فقه المشترك الانساني في الفقه الشافعي “الغزالي وعز الدين بن عبدالسلام انموذجا”)، وكذلك تحدث الدكتور فريد هادي في ورقته بعنوان:(فقه المشترك الانساني في الفقه عند الظاهرية “ابن حزم انموذجا”)، واخيرا تحدث الاستاذ الدكتور عبدالرحمن الكيلاني عن (فقه المشترك الانساني في الفقه عند المالكية “الشاطبي والقرافي انموذجا”)، بعدها تم مناقشة اوراق العمل مع الحضور.
وفي الجلسة الثانية عشرة من خلال اربع اوراق عمل، استكملت المحور السابق حول (فقه المشترك الانساني عند فقهاء الاسلام)، حيث قدم الشيخ هلال اللواتي ورقة عمل حول (الفقه المشترك الانساني في الفقه عند الامامية “النائيني والانصاري انموذجا”)، كما تحدث فضيلة الشيخ عبدالله العزي حول (فقه المشترك الانساني في الفقه عند الزيدية “ابن المرتضى والحسن الجلال انموذجا”)، فيما قدم الاستاذ الدكتور محمد الشيخ ورقة عمل عن (فقه المشترك الانساني عند الاباضية “الامام محمد اطفيش والامام نور الدين السالمي انموذجا”)، واخيرا تحدث الدكتور خالد سعيد تفويشت عن (فقه المشترك الانساني في فقه التعارف والمعرفة والاعتراف عند الشيخ علي يحيى معمر وسماحة الشيخ احمد الخليلي انموذجا”)، بعدها تم مناقشة اوراق العمل مع الحضور.
* الجلسات المسائية
وفي الفترة المسائية عقدت جلستان، حيث تناولت الجلسة الثالثة عشرة في ثلات اوراق عمل محورا جديدا آخر وهو(السياسة الشرعية وفقه المشترك الانساني)،
فقد تحدث فضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن راشد السيابي قاضي بالمحمة العليا عن (قواعد السياسة الشرعية في الفقه الاباضي)، كما قدم الاستاذ الدكتور مجدي عاشور ورقة عمل حول (اسس فقه السياسة الشرعية في المذاهب الاربعة:دراسة مقارنة)، واخيرا تحدث الاستاذ الدكتور نوزاد صواش عن (قواعد الاجتهاد في السياسة الشرعية “قضايا المرأة انموذجا”)، بعدها تم مناقشة اوراق العمل مع الحضور.
وفي الجلسة الرابعة عشرة والاخيرة من يوم امس من خلال خمس اوراق عمل .. واستكملت المحور السابق وهو(السياسة الشرعية وفقه المشترك الانساني)، حيث تحدث الاستاذ الدكتور وصفي عاشور عن (القوة: عناصرها وضوابطها في السياسة الشرعية)، وقدم الاستاذ الدكتور محمد قاسم المنسي ورقة عمل عن (التضامن الاجتماعي وانظمته في السياسة الشرعية)، كما قدم الاستاذ الدكتور رجب ابو مليح ورقة عمل حول (التعددية وقواعد السياسة الشرعية)، وتحدث ايضا في الجلسة الاستاذ الدكتور ادريس فهري الفاسي في ورقة عمل عن (المصالح المرسلة والمشترك الانساني “بحث في اصول السياسة الشرعية”)،واخيرا قدم الشيخ افلح بن احمد الخليلي ورقة عمل عن (السياسة الشرعية بين المحقق الخليلي والامام السالمي)، بعدها تم مناقشة اوراق العمل مع الحضور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جلسات اليوم
يتم خلال اليوم وهو اليوم الختامي لأعمال الندوة بعقد جلستين، من خلال محور جديد وهو (الفقه الاسلامي والتراث الانساني)، في ثماني اوراق عمل .. ففي الجلسة الاولى وهي (الخامسة عشرة) في اربع اوراق عمل .. سيتحدث الاستاذ الدكتور محمد مطر عن (الفقه السالمي واثره في القانون الانجليزي)، كما يتحدث الاستاذ الدكتور برهام عطا الله عن (الفقه الاسلامي واثره في القانون الفرنسي)، وكذلك يقدم الاستاذ الدكتور محمد المالكي ورقة عمل عن (الفقه الاسلامي واثره في القانون الاسباني)، واخيرا سيقدم الاستاذ الدكتور مسفر القحطاني ورقة عمل عن (السياسة الشرعية ةفقه المشترك الانساني). بعدها ستتم مناقشة اوراق العمل مع الحضور.
اما الجلسة الثانية (السادسة عشرة) من خلال اربع اوراق عمل .. فسيتحدث الاستاذ الدكتور محمد كمال امام عن الفقه الاسلامي في مؤتمرات القانو المقارن والبواكير الاولى للمقارنة، وسيقدم الاستاذ الدكتور جعفر عبدالسلام ورقة عمل عن (الفقه الاسلامي واكاديمية الفقه الدولي في لاهاي)، وايضا سيشارك الاستاذ الدكتور فايز محمد حسين بورقة عمل عن (اثر مشروع السنهوري في القوانين المدنية العربية)، واخيرا سيتحدث الاستاذ الدكتور جابر عبدالهادي سالم الشافعي في ورقة عمل عن (تقنين الفقه الاسلامي بين المؤتمرات والتشريعات)، بعدها ستتم مناقشة اوراق العمل مع الحضور.
ـــــــــــــــــ
لقاءات
* الندوة خدمة للأمة الاسلامية عامة
سماحة الدكتور عزيز احسان مفتي جمهورية كرواتيا ـ احد الحضور في الندوة قال: في البداية اقدم كلمة شكر الى صاحب الجلالة السلطان المعظم والى السلطنة حكومة وشعبا فهم باقامة هذه الندوة يخدمون الاسلام والامة، حيث ان هذه الندوة مهمة جدا، فالغربيون دائما يعنيهم حقوق الانسان ولكن ما سمعناه في هذه الندوة من مواضيع وامور فأصبح الموضوع في وسط الاسلام هو حقوق الانسان في القرىن الكريم والسنة النبوية الشريفة وواجب علينا ان نظهر صورة الاسلام، فالمسلمون في الغرب وعن طريق هذه الندوة نستطيع ان نوصل لهم معاني هذه الحقوق للاستفادة من جميع المحاور التي تدار خلال هذه الندوة، وانا بكوني طالب للعلم فاستمعت واستفدت الكثير من هذه المحاور الهامة ومنها حقوق الانسان والعدل والمساواة وغيرها، فالشكر لجميع القائمين على هذه الندوة وعلى رأسهم معالي الشيخ وزير الاوزقاف والشؤون الدينية.
وقال: في زيارتي للسلطنة وجدت فيها الارض النظيفة وفيها اصحاب العلم والفكر والحمد لله نظرتي كبيرة حين اذهب الى بلدي لانقل لهم في صورة جميلة وشاملة ما رأيته وشاهدته ، مشيرا الى انه لم يشارك هذا العام بورقة عمل ولكن ان شاء الله سيشارك في الندوة القادمة مع العلماء الباحثين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الاسلام أكد على مرحلة الطفولة
الاستاذ الدكتور داود بن عيسى بورقيبة نائب عميد كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية جامعة عمار ثليجي ، الأغواط الجمهورية الجزائرية ـ مشارك بورقة عمل حول حقوق الطفل في القرآن الكريم، حيث قال: قسمت الموضوع الى محاور منها تعريف بعض المصطلحات للباحثين بيان معنى كلمة طفل لغة واصطلاحا وفي القرآن الكريم ، وذكرت بعض الاستعمالات التي تشترك مع كلمة (طفل)، حيث اشار القرآن الكريم الى بعض المعاني التي تقرب الى كلمة (طفل)، كما بينت اهمية هذا الموضوع وكيف جاءت حقوق الطفل في القرآن الكريم ، ثم تحدثت عن الحقوق التي بينها القرآن الكريم منها حق الطفل في بطن امه وكذلك وهو جنين ثم وهو طفل.
مؤكدا بأن الإسلام اهتم ايما اهتمام بمرحلة الطفولة كما جاء في القرآن الكريم، فالله يقسم في كتابه العزيز بالطفولة، قال تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ)، كما ان القرآن الكريم يعتبر الأطفال مصدر سعادة وسرور وطمأنينة لوالديهم فيقول عزّ وجلّ: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ)، ويصفهم بأنّهم زينة الحياة الدنيا:(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
ولقد اعتنى القرآن الكريم بالطفل عناية فائقة، ولا يمكن لي أن أوفي باهتمام القرآن بكافّة حقوق الطفل في هذه العُجالة، ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك جُلّه.
مشيرا الى ان عنوان الندوة هذا العام مهم جدا بالذات ونحن في عصر العولمة بحاجة الى ان نقدم للناس الجانب المشرق للاسلام ونبين ان هناك قواسم مشتركة وكذلك هناك مشترك عالمي اهتم به الاسلام الذي جاء رحمة للعالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* لابد من التطبيق لتوصيات الندوة
وأوضح الدكتور خالد سعيد يوسف تفوشيت وكيل الشؤون العلمية بكلية القانون والعلوم السياسية في جامعة الجبل الغربي بليبيا ـ مشارك بورقة عمل حول “فقه المشترك الانساني في فقه التعارف والمعرفة والاعتراف عند الشيخ علي يحيى معمر وسماحة الشيخ احمد الخليلي أنموذجا” قائلا: الورقة تتحدث عن قضية التعارف والاعتراف بين المذاهب الاسلامية بالتحديد وبين الامة والامة الاسلامية والحضارات الاخرى فيما يتعلق بالمعرفة والتعارف.
مبينا بأن قضية التعارف والاعتراف قد حاولت خلالها ان اشير الى الجوانب التأسيسية التي تتعلق بالتعارف والاعتراف والحوار، خاصة متى يكون الحوار مثمرا وهادفا اذا وجد التعارف وتم الاعتراف، كما بين في الورقة كذلك مفهوم التعارف والاعتراف من الناحية اللغوية والاصطلاحية كأداة تأسيسية للحوار المثمر والهادف الذي ينتج عنه ما يسمى بالتواصل وكذلك التعايش السلمي بين المذاهب الاسلامية، كما اشرت ايضا بما يتعلق بالاطار النظري عند الشيخين في المعرفة والتعارف من خلال كتبهم والمحاضرات والدروس التي كانوا يقدمونها ويدرسون فيها فكرهم.
وقال: ان الندوة بلا شك موضوعها مهم جدا تحتاج اليه الامة خاصة في وقتنا الراهن الذي تعيش فيه صراعا جدا بين اطيافها وبين الشعوب فيما بينهم، حيث تأتي هذه الندوة عبر محاورها بمعالجة هذه الموضوع في اطار من التعايش السلمي وازالة جميع الاشياء التي تؤدي الى التناحر بينها لتجتمع تحت راية (لااله الا الله)، متمنيا للندوة ان تخرج بتوصيات هامة والاخذ بها التطبيق وبعين الاعتبار في هذا الجانب بدل ان تكون نظرية فقط، بمعنى ان يطبق ما يرد فيها من امور تدعو للتعايش والاشتراك الانساني وخاصة من المسؤولين.
ـــــــــــــــــــــ
* من أوراق العمل بالندوة
ــــــــــــ
“حقوق الإنسان ومقاصد الشريعة الإسلامية” ـ عبدالحميد عبدالمنعم مدكور
يتضمن البحث العناصر الآتية: إشارة موجزة ـ في أوله ـ إلى ما ظهر في الفكر الإنساني الغربي السياسي منه والقانوني، من عناية بحقوق الانسان، وما صدر من وثائق في هذا الشأن وفي مقدمتها ما صدر خلال الثورة الفرنسية 1789م، من حديث عن الحرية والعدالة والمؤاخاة، ثم ما أصدرته الأمم المتحدة من إعلان عالمي لحقوق الإنسان في ديسمبر 1948، مع تقديم ملاحظتين مهمتين – في هذا الصدد – أولاهما : أن الفكر الإنساني – بصفة عامة – لم يشهد حديثاً عن حقوق مطلقة ولا كاملة مستحقة للإنسان بوصفه إنسانا، بل كانت هذه الحقوق تتقرر لأناس مخصوصين، لهم مكانة متميزة ترتبط بجنس أو دين أو نسب أو منصب، وأن تقرير الحقوق – على هذا النحو الخاص – كان أمرًا سائدا في الحضارات القديمة، على تنوعها: شرقا وغربا، وأن الحديث عن الإنسان – بوصفة إنسانًا – لم يكن ملحوظا ولا موضع عناية لدى أهل الفكر أو لدى الحكام؛ ولا ملحوظا في علاقة الأمم والشعوب، بعضها ببعض.
وأما الملاحظة الأخرى، وهي لا تقل أهمية عن الاولى فهي أن الوثائق التي صدرت عن منظمات دولية كبرى كالأمم المتحدة قد صدرت بتأثير دول كبرى لم تضع في حسبانها ،من الناحية العملية الواقعية، حقوق الدول الكثيرة التي كانت تخضع آنذاك للاحتلال والاستعمار في قارات العالم المختلفة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وأنه لم يترتب على هذا الوثائق – بصورة آلَّية – أن تتخلى هذه الدول الكبرى عن احتلالها لغيرها من الشعوب، بل كان على الشعوب المستعمرة أن تخوض حروب الاستقلال ضد تلك الدول المغتصبة لحرياتها، ولم تظفر بها إلا بعد ما قدَّمت تضحيات كبرى لنيل حقوقها في الحرية والكرامة الإنسانية.
ثم ينتقل البحث – بعد ذلك – إلى الحديث عن الحقوق التي قررها الإسلام للإنسان المسلم وللانسان على وجه العموم، وهي حقوق مقررة في شريعة الإسلام في مصادرها الأساسية – في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، وأن حضارة الإسلام قد شهدت التطبيق لهذه الحقوق قبل أن يتحدث المعاصرون عن هذه الحقوق، أو أن يدعوا إليها.
ويتبين من النظر في هذه الحقوق التي جاءت في الإسلام أنها تتسم بالشمول والعموم: فهي حقوق فردية، واجتماعية، وهي مادية وروحية،وهي حقوق تتناسب مع أحوال الإنسان قوة وضعفا، وتعني عناية بالغة بحقوق الضعفاء، كالصغار واليتامى والفقراء والمساكين والمنقطعين من أبناء السبيل، والمعوَََّقين وأمثالهم، وأن هذه الحقوق مقررة في الإسلام قبل المطالبة بالواجبات، ومن ذلك على سبيل المثال: حق الجنين والوليد والطفل الصغير الذي لا يطالب – على سبيل الوجوب – بأية واجبات إلا بعد أن يصل إلى مرحلة التكليف، ثم تمتد الحقوق إلى من زال عنهم وَصْف الحرية بحسب ما كان واقعا في ذلك الزمان أوالى من وقعوا في الأسر في الحروب، مع حماية غير المحاربين من الشيوخ والنساء والمزارعين والمعتكفين في المعابد من غير المسلمين، وهكذا.
ثم تتميز كذلك بارتباط هذه الحقوق بالقيم العليا التي جاءت بها الشرائع – على وجه العموم، والإسلام على وجه الخصوص، كقيمة الحفاظ على الكرامة الإنسانية “ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ والْبَحْرِ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً” [سورة الاسراء: 70] وقيمة الَعْدل التي جعلها الله غاية من غايات إرسال الرسل إلى البشرية “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ والْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ….” [سورة الحديد: 25] وقيمة الحرية في اختيار ما يرتضيه الإنسان من الأديان، مع تحمله للمسؤولية عن اختياره أمام الله تعالى “لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ” [سورة البقرة: 256] “ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ” [سورة يونس: 99] وقيمة تحقيق الشريعة لمصالح العباد، ودرء المفاسد عنهم، وهو ما تبارى علماء الإسلام في إعلانه وتأكيده وتفصيله .بيانا لمقاصد الإسلام. ومن ذلك ما قاله عز الدين بن عبدالسلام في كتابه قواعد الأحكام “والشريعة كلها مصالح: إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا” فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه، أوْ شرا يزجرك عنه، أو جمعا بين الحث والزجر” (1/9) وقوله “والكتاب والسنة يشتملان على الأمر بالمصالح كلها: دقِّها وجِلِّها، وعلى النهي عن المفاسد كلها: دِقِّها وجِلِّها، فمنه ما يدل بصيغة الأمر والنهي، ومنه ما يدل بالوعد والوعيد” (1/132) وما كتبه ابن تيمية “في أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين، [وتدفع] شر الشرَّين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما” [مجموع فتاوي ابن تيمية 20/48] وما قاله ابن قيم الجوزية في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين “فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدْل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسالة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة الي المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل…. (1/14 وانظر 1/195) إلى نصوص كثيرة أخرى تتحدث عن الحفاظ على حق الحياة، والكرامة الإنسانية، والعدالة بمعانيها الدستورية والحقوقية والاجتماعية والأخلاقية، وما جاء على هدْى هذه النصوص فيما تناوله الفقهاء والأصوليون من الحفاظ على الضرورات الخمس من حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وما أضيف إليها من بَعْد – لدى بعض المعاصرين- من مقاصد تتعلق بالحرية والعدل وغيرهما. وهي لا تنشئ حقوقا، ولكنها ترفعها إلى درجة عليا عندما تضعها مع الحقوق الأساسَّية السابقة.
وفي هذا الجزء من البحث ستقع العناية بتوضيح العلاقة بين حقوق الإنسان ومقاصد الشريعة الإسلامية، التي عنيت بتقرير هذه الحقوق، وتضمنت من التشريعات ما يحفظها.
وينتهي البحث بالإشارة إلى بعض الأمور المهمة، ومنها: أن ما شرعه الإسلام من حقوق الإنسان لم يكن مُثُلاً معلقة في الفضاء، أو مجرد مناشدة للضمير الإنساني كي يرتفع إلى هذا الافق العالي الذي تقرر في الإسلام، بل إن الحياة الإسلامية شهدت – منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم عهد الراشدين ومن سار على نهجهم من حكام المسلمين – تطبيق هذه الحقوق وان تطبيقها كان يزدهر كلما كانت الشريعة حاضرة في نفوس حكام المسلمين وعلمائهم، وفي حياتهم الاجتماعية على وجه العموم، وأن ما وقع من عدوان على هذه الحقوق، أو تقصير فيها كان يرجع إلى أسباب كثيرة يأتي في مقدمتها التجافي عن هُدْى الشريعة وتعاليمها.
وأن حَصْر مقاصد الشريعة في الضرورات الخمس، وفي الحاجيات والتحسينيات التي ظهرت في كلام الفقهاء والأصوليين بل وبعض الصوفية والفلاسفة الإسلاميين – هو حصر لا يقصد به إغلاق باب الاجتهاد في تحديد هذه المقاصد أو أن شئنا قلنا في تحديد هذه الحقوق، وإنما هو اجتهاد في تحديد أهم المقاصد التي تراءت لهؤلاء العلماء من نظرهم في الشريعة الإسلامية وأحكامها وآدابها، وهو اجتهاد يتسع لملاحظة ما يطرأ على الحياة الاجتماعية للمسلمين من تطور فكري وثقافي، وقد يؤدي ذلك إلى الالتفات لأمور تجلَّت الحاجةُ إليها، أو وقع عدوان أو حَيْف عليها، وكان هذا يقتضي أن يتجدد الاجتهاد حولها، لإبراز أهميتها، ورفع درجتها في منظومة الضرورات والحاجيات والتحسينيات، ويترتب على تجديد النظر أن يرتفع بعض المسائل من الحاجيات إلى الضروريات أو من التحسينيات إلى الحاجيات وهكذا، ومن المقرَّر المتفق عليه بين علماء الشريعة أن الفتوى تتغير باختلاف الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، وليس على المجتهدين من حرج في هذا التجديد أو تلك الإضافة، مادام ذلك كله دائرا في فلك الشريعة، قاصدا الى بيان محاسنها وكمالها، واتساعها لتحقيق مصالح البشر، دون مخالفة أو مصادمة لنصوصها أصولا وفروعا وتشريعا وهداية وروحا.
وليس من بأس – عندئذ – أن يتم الحديث عن حقوق الإنسان مندرجةً تحت عنوان مقاصد الشريعة، أو أن يقع التوسع في هذه الحقوق، بإضافة حقوق أو مقاصد أخرى لم ترد – من قبل – لدى السابقين، مادامت تتصف بما تتصف به هذه الحقوق أو المصالح من حيث كونها كلية عامة، ومن حيث كونها تستظل بظل الشريعة الخاتمة التي تتسع للزمان والمكان والإنسان، ويسعى البحث إلى تأصيل هذه المسائل وتفصيلها وتقريرها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
“الفقه الإنساني المشترك عند ابن بركة” ـ محمود مصطفلى آل هرموش
يذكر الباحث هنا بأنن المستقرئ لكتاب ابن بركة يتضح له أن الكتاب غير مرتب على أبواب الفقه المعروفة، وتوجد فيه مباحث متكررة في مواضع عدة مما دعاني إلى دراسته والدخول إليه من باب الكليات الخمس وهو باب المصالح الضرورية الخمسة وهي حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب؛ لأن جامع ابن بركة لا يخرج عن ذلك ولأن المطلوب دراسة المسائل ذات الصلة بالبعد الإنساني من جهة، ومن جهة أخرى ما يتعلق بمصالح الإنسان.
وقال: وأبدأ بمصلحة حفظ الدين من جانب الوجود، وسوف أقتصر على إيراد المسائل مكتفياً بذكر عناوين المسائل في شيء من التعليق عليها بالقدر الذي يبرز الجانب الإنساني فيها.
فحفظ الدين يتحقق بقيام أركانه ودعائمه ودرء الخلل الواقع، أو المتوقع عليها. وهذا المقصد من أعظم المقاصد في تحقيق السعادة الإنسانية فبالدين تنهض البشرية وبقيمه وتعاليمه ترتقي من مستنقعها الآسن وتصعد في مدارج الكمال. فالأمة التي لا تضبط حياتها بضوابط الدين هي أمة تتخبط في الظلام الدامس ولو وصلت إلى الرقي المادي إذا لم يكن لها رصيد كافٍ من الروح، وقد شهد العالم انهيار الشيوعية المادية بكل منظومتها الفكرية، والمادية والاجتماعية لما قالت: الدين أفيون الشعوب. وسوف تتلوها أمم ونظريات وفلسفات نظرت إلى الدين هذه النظرة المظلمة.
وتحدث ابن بركة في جامعه عن حفظ الدين بجناحيه النظري العقدي، والعملي، وسوف أبدأ بالجانب العملي تاركاً الجانب النظري نظراً لضيق الوقت.
تحدث ابن بركة في باب الطهارة عن طهارة الثوب، والسترة، والأرض التي يصلى عليها، واستدل للطهارة والحجة في طهارة الثوب ظاهر والحجة في طهارة الموضع قوله تعالى:” وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً”.
والطهارة مقصد إنساني فُطر الناس عليها وابتلي بها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام فجعله الله بها إماماً للناس.
قال أهل العلم: والكلمات هن خصال الفطرة وهي جماع باب الطهارة والأمة الإسلامية نظيفة في أبدانها، نظيفة ثيابها وأفنيتها وشوارعها وكل شأن من شؤون حياتها.
وقال رحمه الله:” أوجب الله على من خوطب بالصلاة التوجه إلى الكعبة، فإن كان المصلي مشاهداً لها صلى بالمشاهدة، وإن لم يكن مشاهداً لها صلى بالدلائل”.
والبعد الإنساني يظهر من خلال ربط الأمة في شعائرها التعبدية بالبيت العتيف الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً تهفو إليه النفوس والأرواح، وهو العَلَمُ الذي اجتمعت حوله الأمة، وقد ذكر رحمه الله أن الحرم لا يقتل صيده ولا يعضد شوكه، وفي ذلك إشارة إلى أن الله جعل حرم مكة وحرم المدينة أيضاً واحة للأمن يتجسد فيها السلام العالمي، فقد كان الإسلام أسبق إلى تحييد منطقة منزوعة من السلاح وأسباب الدمار من الأمم بعد الحرب العالمية الثانية في تحييدهم سويسرا واعتبارها دولة للسلام بعيدة عن النزاع والصراع، وفي هذا بُعدٌ إنساني ظاهر.
وقد ذكر العلامة ابن بركة:” وصلاة الجماعة فرض على الكفاية وينبغي لمن سمع النداء والإقامة أن لا يتخلف عن الجماعة”. وقال أيضاً:” قال (عليه الصلاة والسلام):” من سمع النداء فلم يُجِبْ فلا صلاة له إلا من عذر”، قيل يا رسول الله: فما عذره؟ قال:” خوفٌ أو مرض”.
وتكلم عن الزكاة، والزكاة ينظر إليها من زاويتين، لأولى: كونها سبباً من أسباب حفظ الدين من جانب الوجود ولأنها تدفع الشح عن صاحبها، والزاوية الثانية: أنها سبب في حفظ كلي آخر وهو حفظ المال؛ لأنها سبب في نماء المال والبركة فيها.
زكاة الفطر: قال ـ رحمه الله ـ:” زكاة الفطر عندنا واجبة كما قال أصحابنا”. وقد علل النور السالمي ـ رحمه الله ـ زكاة الفطر بإغناء الفقير في ذلك اليوم قال: وتأخيرها منافٍ للحكمة التي شرعت من أجلها وهي تطهير الصائم، وإغناء الفقير في ذلك اليوم لقوله (صلى الله عليه وسلم):” أغنوهم عن السؤال في ذلك اليوم”.
والحكمة هذه أظهرت البعد الإنساني لصدقة الفطر وهي إدخال السعادة، والسرور والشعور بالغنى في يوم يكثر فيه المال في يد الأغنياء يوسعون فيه على أولادهم، فلكي لا تنكسر قلوب أولاد الفقراء جاءت صدقة الفطر يوم العيد، ولهذا المعنى جاءت سنة الأضاحي يوم الأضحى وفي ذلك من المقاصد الإنسانية ما لا يخفى.
زكاة المال: وتكلم ابن بركة عن زكاة المال وذكر أنها واجبة على كل مسلم بالغاً أو غير بالغ، مغلوباً على عقله أو عاقلاً، ثم بيَّن حكمتها، فالزكاة طهرة للمال، وطهارة للنفوس من الشح، ومواساة للفقراء والمساكين، وهي أحد وجوه التكافل الإنساني والتعاون على البر والتقوى، وقد عاش الناس في ظل هذا التكافل والتعاون في ستر وعافية ورحمة.
وتحدث عن الحج: وفي الحج من الفقه الإنساني المسترك ما لا يغيب عن عقل عاقل، وفيه من المصالح السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية الشيء الكثير، وقد أجملها القرآن الكريم، وقد نكَّر المنافع لتعظيمها وتهويل أمرها ، فالحج مؤتمر إسلامي وإنساني عظيم لو أحسن المسلمون استغلاله، وهو سوق إسلامية مشتركة امتنَّ الله بها على الأمة، وهو مؤتمر على الصعيد الاجتماعي يتعارف فيه الناس على اختلاف أوطانهم وألوانهم ولغاتهم، فالتعارف إذاً مقصد إنساني من تنوع الشعوب. وقد تكلم ابن بركة والسالمي على تحريم قتل الصيد في الحرم سواء حرم مكة وحرم المدينة، وجعل في قتله جزاءً قال رحمه الله: والمدينة حرم؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حرمها. وقد ذكر الفقهاء أن الحرم لا يُقتل صيده ولا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تؤخذ لقطته، ولا يُقطع شجره، وقد أشرت إلى هذا المقصد عند الكلام عن التوجه إلى البيت العتيق في الصلاة، وقد أراد الله بذلك أن يكون الحرم واحة للناس وأمناً، وهو مقصد إنساني عظيم. لذلك قال الفقهاء: لو أن مجرماً لاذ بالحرم فإن لياذه لا يعصمه كي لا يكون الحرم ملاذاً للمجرمين.
فالجدال الذي نهى الله عنه هو المحظور مثل ما يقع من مخاصمات الناس حتى تخرج عن الحق .. والفسوق كل شيء يحرم عليه إتيانه”، وهذا فقه إنساني عظيم؛ لأن الجدال والفسوق والخصومات تفسخ المجتمعات وتزرع بين الناس الحقد والغفل، الأمر الذي يعود على حكمة الحج بالنقض والإبطال.
كما بحث ابن بركة وفقهاء الاباضية الفقه الإنساني الذي يعود إلى حفظ النفس من جانب العدم في باب القصاص، والقود، والحدود، والديات.
وهذه الآيات بيَّنت حكمة القصاص فإذا أيقن المجرم أنه سوف يُقتل إن قتل ويتجرع الكأس الذي سقى منه الناس فإنه سوف يقلع عن الجريمة.
فقد قلل من شأن الجريمة فعاش الناس في أمن على أرواحهم وأموالهم ودمائهم، وقد ذكر طائفة من القواعد في باب القصاص هي في البحث لا أستطيع ذكرها الآن.
أما الحدود فقد تكلم عنها ابن بركة وهي أنواع: منها ما يتعلق بحفظ النفس كحد القود، ومنها ما يتعلق بحفظ المال كحد السرقة، ومنها ما يتعلق بحفظ العقل كحد الخمر، ومنها ما يتعلق بحفظ الدين وهو حد الردة، ومنها ما يتعلق بحفظ الأمن وهو حد الحرابة وهو يعود إلى حفظ الدين والمال.
وفي القود معنى إنساني ظاهر وبه يعيش الناس آمنين على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم، والبلد الذي لا يأخذ بالقصاص هو مجتمع يعيش أهله في تهارج، وخوف وأحقاد، وفي ذلك يقول العلامة الجليلي:” وفي العفو ما يعطي دليلاً على تفوق الإسلام على كل الأنظمة الأخرى فهو يحبب إلى ولي الدم العفو لما فيه من شعور إنساني، ولكنه لا يفرضه عليه لئلا يشعر بحرمان من حوله ولئلا يجد المجرمون الباب مفتوحاً أمامهم للعبث في الأرض وسفك دماء الأبرياء.
كما تكلم عن حفظ المال من جانب الوجود. وهذا المقصد يغطي مساحة كبيرة من كتاب الجامع لابن بركة؛ لأنه يدخل فيه فقه المعاملات من بيوع وإجارات، ورهون، وشركات، ومضاربات، والإشهاد على الدين، والضمان، والحجر.
فقد حدد ـ رحمه الله ـ حفظ المال بضوابط محددة منها:
1 – تحريم الربا؛ لأن الربا يدخل في التجارة والتعامل المالي البيني فيورث الحقد والكراهية والبغضاء بين الناس، ويجعل الإنسان لا يفكر إلا بالطمع والجشع وتتلاشى معاني الأخوة والإنسانية والرحمة.
2 – تحقيق التراضي، فكل عقد يتخلف فيه الرضا فهو عقد فاسد، وبذلك تبطل كثير من العقود التي تشتمل على الغرر والخديعة، والتدليس، والنجش، وتلقي الجلب قبل أن يفضى به إلى السوق، وجميع أنواع الغش والإكراه والغلط، وكل ما يعيب الرضا، وقد تكلم ابن بركة عن كل ذلك. وذكر نهي النبي T عن بيع الرجل على بيع أخيه، وقد ذكرت في البحث الأحاديث التي تضبط هذه المعاملات في البحث يضيق الوقت عن ذكرها.
فانظر إلى هذا الفقه الذي يجيش بالمشاعر الإنسانية النبيلة فيحرم على المسلم الخديعة والغش والغرر بحق غيره من المسلمين وغير المسلمين.
وتكلم عن بيع الثمرة قبل بدوِّ صلاحها، ونهى عن بيع القبالة وهي بيع الرجل زرعه إلى سنين، وبيَّن الحكمة من ذلك وهي الخوف من الجوائح، وتكلم عن الرهن وذكر أنه ثقة بيد المرتهن مقابل الدين، وتكلم عن الإجارات وذكر فيها من البعد الإنساني ما يعود إلى حفظ الناس، وذكر الإجارات الفاسدة كاستئجار الكاهن، أو الساحر، أو النائحة، والحجام، وبيَّن حرمة بذل المال في غير محله؛ لأنه قيام الناس،وتكلم عن ضمان الأجراء لما في أيديهم من أموال الناس إذا فرطوا حفظاً لأموال الناس عن العبث. كما تكلم عن حكم بيع الرجل مال ولده إذا لم يكن محتاجاً فمنع من ذلك حفظاً لمال الولد من الضياع، وسمى من يبيع مال ولده لصاً، وفي ذلك بُعْدٌ إنساني وهو سد الذرائع على الآباء الذين يتخذون من حديث” أنت ومالك لأبيك” ذريعة لأكل مال الولد بغير حق. وقد فسَّر الحديث تفسيراً يحفظ مال الولد من سلطة أبيه إذا استعملها على وجه مضر، وتكلم عن بقية المعاملات من المضاربة، والشركة، والإشهاد على الدين، والأمانة، والوديعة، وقد ذكرت البعد الإنساني في البحث، والقواعد الفقهية الناظمة للفقه الإنساني المشترك في البحث.
وتكلم ابن بركة عن حد السكر فقال: ومن وُجِدَ سكراناً من الشرب لزمه الحد. والحكمة من تحريم الخمر والحد عليه ظاهرة وهي حفظ العقل الذي قدسه الإسلام وعرف الله به والذي به كان الإنسان أهلاً للتكاليف الشرعية والذي لولاه لكان الإنسان كالبهيمة المهملة. فالعقل مناط التكليف وبه تتحقق الأهلية الشرعية للإنسان.
وقد تكلم ابن بركة في حفظ النسب بما يشمل الضروري ومكمله، فالضروري تشريع النكاح والترغيب فيه، وتحريم الزنا والتنفير عنه، هذا من جانب الوجود، ومن جانب العدم تشريع الحد عليه. أما مكمل الضروري في باب النكاح فهو باب الكفاءة، ومهر المثل، وعدالة الشهود. وقد ذكرت كلامه مع أدلته في ورقة البحث.
ومن المسائل التي تعود إلى حفظ النسب مسألة العدة، والحكمة فيها كما قال ابن بركة هي استبراء الرحم، وفي هذه الحكمة من الفقه الإنساني الضروري ما يحوط الأسرة من أن يدلي إليها من ليس منها، ويحدد دائرة القربى التي ينتسب إليها الإنسان، ويحدد دائرة الرحم كي لا تدنس بعنصر أجبي.
وتكلم عن الكفاءة وذكر أن المسلمين أكفاءٌ بعضهم لبعض، وفي باب الكفاءة فقه إنساني عظيم وهو أن من حقوق الأبناء على أهلهم أن لا يدخلوا عليهم في نسبهم من يعيرون به، وأن التفاضل على أساس الدين يفسح المجال أمام الناس على اختلاف طبقاتهم والذين أضنى كاهلهم التمييز العنصري والتفاوت الطبقي أن يدخلوا في شرف هذا الدين.
ـــــــــــــــــ
“تطبيق الشريعة الإسلامية في صقلية الإسلامية والنورماندية” ـ برهام محمد عطا الله
يقول الباحث : قد يكون من المناسب عرض بعض الملاحظات حول ظروف البحث عن القانون الذي طبق في صقلية أثناء حكم المسلمين للجزيرة.
الملاحظة الأولى : أن هذه الدراسة تحاول تطبيق تقنيات تحليل الأنظمة القانونية الحديثة على الشريعة الإسلامية حين تنطبق قواعدها وأحكامها في بلد معين. فالباحث يرى أن قواعد الشريعة الإسلامية تصبح من الناحية الفنية المعاصرة قانونا وضعياً إذا قررت السلطة الحاكمة في بلد ما تطبيق أحكامها ( ) ويتم تحليل قواعدها كما يجري بالنسبة لأي نظام قانوني معاصر بالمعنى الذي أبرزه الفقيه القانوني Kelsen الذي تأثر به كما تأثر به كثير من القانونيين المعاصرين ابتداءً من الخمسينيات.
الملاحظة الثانية : تتعلق بصقلية نفسها إذ أنها تعتبر مجالاً مثالياً لدراسة تطبيق الشريعة الإسلامية كقانون وضعي. فقد تناوب عليها في قرنين ما يمكن أن يعد في التحليل القانوني الحديث ثلاثة أنظمة قانونية إسلامية تتمثل في المذاهب الفقهية الحنفية والمالكية والمحاولات الشيعية الإسماعليية طبقا لتغير السلطة الحاكمة في صقلية الإسلامية. فالسلطة المسيطرة في وقت ما ستفرض قواعد المذهب الذي تنتمي إليه من خلال اختيار القضاة من هذا المذهب.
والملاحظة الثالثة : تتعلق بصدور دراستين هامتين تخصان النظام القانوني الصقلي الأولى هي دراسة جيريمي جونز عن إدارة الدواوين العربية (الفاطمية) لمملكة النورمان.
والدراسة الثانية هي دراسة جون المقدسي والذي يقرر فيها أن الشريعة الإسلامية هي أصل القانون العمومي الإنجليزي.
فنظرية جون مقدسي تتلخص في أن النظام القانوني الإسلامي الذي كان مطبقاً في صقلية الإسلامية استمر تحت حكم النورمانديين في صقلية ليؤثر على النورمانديين الذين حكموا انجلترا في نفس الفترة.
وهذا التأكيد يعطي زخماً كبيراً لهذه الورقة ويحفزنا على تحري حقيقة هذا الأمر. وبدون استباق النتيجة فإن منهجنا سيكون في النظر إلى الشريعة الإسلامية بطريقة كلية بمعنى أن يكون تحليلاً Macro وليس تحليلاً Micro. أي أننا سنحاول تحديد طبيعة النظام القانوني الإسلامي الذي طبق في صقلية وهل كان نظاماً أخذ بالمذهب الحنفي أو بمذهب الإمام مالك أم بالمذهب الشيعي الفاطمي الإسماعيلي. فالقواعد التي أخذ بها كل مذهب من هذه المذاهب تكون نظاماً قانونياً متميزاً في تفاصيله وأن اعتبر كل منهم في مجمله نظاماً قانونياً إسلامياً .
وسنبدأ بالنظر في تطبيق المذهب الحنفي في صقلية ثم ثانيا بزوغ شمس مذهب مالك بن أنس بعد نزوح الفاطميين إلى مصر. وننتهي ثالثا بعرض كيف استمر تطبيق نظام دواوين الفاطميين في دولة ملوك النورمان والتي يحتمل أن يكون قد تم تطبيقها في انجلترا أيام الملك هنري الثاني الذي حكم انجلترا ابتداء من 1156 ميلادية .
وعلى خلاف الشائع لم تكن صقلية مالكية طيلة كل الحكم الإسلامي فيها . بل كانت في فترة طويلة حنفية المذهب والنظام القانوني. ويرجع ذلك إلى سبب تاريخي يتصل بالسلطة التي قامت بغزو صقلية والاستيلاء عليها في القترة من 212 إلى 260 هجرية تقريبا وهي دولة الأغالبة التي انضوت تحت لواء الخلافة العباسية وحيث أن الدولة العباسية كانت حنفية المذهب فكان من الطبيعي أن يكون الأغالبة على دين من قلدوهم الحكم. والواقع أن يمكن القول أن النظام القانون الإسلامي المطبق في صقلية كان من 212هـ – 358هـ / 827م – 969 م تاريخ مغادرة الفاطميين إلى مصر كان حنفياً.
ومن هنا فلم يكن من الغريب أن تسند قيادة الحملة التي أرسلت لفتح صقلية سنة 212هـ / 827 م إلى أسد بن الفرات الذي جمع بين الفقه المالكي والفقه الحنفي واحتفظ بمنصبه كقاض مع أبي محرز والذي لقى ربه في 213هـ في السنة الثانية من حملته وهو يجاوز السبعين عاماً.
ويرجع الفضل إلى أماري الذي أشار في موسوعته عن صقلية الإسلامية إلى أن الصقليين كانوا أحنافاً وأورد في المكتبة العربية الصقلية ما كتبه المقدسي في ” أحسن التقاسيم ” من أن الصقليين يتبعون المذهب الحنفي.
ولعل أحسن ما كتب في هذا الموضوع ما جاء في كتاب ليونارد تشياريللي
في الصفحات من 290 إلى 296 تحت عنوان Muslim Religious Sciences ؛ حيث يرى تشياريللي أن عدم تحريم الأحناف للخمر كان أحد الأسباب المشجعة للمسيحيين الصقليين إلى الدخول في الإسلام ويشير إلى ما جاء برياض النفوس المرجع السابق الإشارة إليه في الجزء الأول صـ288 من أن أبا محرز كان حنفياً وأن الأسد بن الفرات كانت حنفيتة مشوبة بالمالكية ؛ كما يرى تشياريللي صـ 291 أن الأمير الأغلبي ابراهيم الثاني بعث بقاضيين من الأحناف هما هيثم بن سليمان وقاسم ابن ابومنهل لتهدئة المتمردين من أهالي صقلية وقد نجحوا في مهمتهم السلمية لاحترام قادة الصقليين لهم ، دليلاً على انتشار الحنفية في صقلية