في التعامل مع الفتنة الأسوانية كان العقل حاضرا. فقد ذهب رئيس الوزراء بنفسه إلى المدينة واستمع إلى أطراف الصراع الدامي الذي أدى إلى مقتل نحو 25 مصريا وإصابة خمسين آخرين. في الاجتماع تم الاتفاق على «هدنة» لمدة ثلاثة أيام لامتصاص الانفعال والغضب ومحاولة إطفاء الحريق المشتعل. في السياق طرحت فكرة تشكيل لجنة لتقصي حقائق ما جرى تمهيدا لمحاسبة المسؤولين عن الفاجعة. في الوقت ذاته تم تداول مقترحات الوساطة الأهلية بين الطرفين. فمن حديث عن وساطة شيخ الأزهر ودور لعلمائه، إلى حديث آخر عن دور للسلفيين، وأبرز الأهرام على صفحته الأولى أمس أن نجوم كرة القدم أبدوا استعدادهم للقيام بذلك الدور. بالتوازي مع ذلك طرح رئيس الوزراء مدخلا تنمويا للأزمة، ووعد بالاهتمام به ليس في أسوان وحدها ولكن في محافظات الصعيد التي أهملتها خطط التنمية.
هذه ملاحظة أولى على المشهد لخصتها فيما اعتبرته تعاملا عقلانيا وموضوعيا، لم يعول على الحل الأمني وحده الذي نراه في سيناء، ويتمثل في تمشيط القرى واعتقال أكبر عدد من الأهالي، وتعريضهم للتعذيب والاستنطاق وانتزاع الاعترافات منهم. والباقي بعد ذلك معروف، باعتبار أن تلك خلفية تمهد لتلفيق قضية أو عدة قضايا من ذلك القبيل الذي يعمم على النشطاء هذه الأيام، فيرتهنهم في الحبس الاحتياطي أو يوزع عليهم الأحكام الجاهزة التي تتراوح بين الحبس لسنتين أو ثلاث وبين الإعدام والإحالة إلى المفتي.
الملاحظة الثانية أن ذلك النهج في التعامل مع الأزمة صرف الانتباه عن الهرج الذي تمارسه وسائل الإعلام، التي ما برحت توزع الاتهامات وتجري المحاكمات من جانبها، قبل إجراء أي تحقيق أو تحر. وللأسف فإن المتحدث العسكري أصبح يشارك في ذلك الهرج، ذلك أنه ركب بدوره الموجة وسارع إلى اتهام الإخوان بالضلوع في الفتنة وإطلاق شرارتها. الأمر الذي لم تؤيده أية أدلة أو حتى شهادات من الأهالي. وبالمناسبة فإنه ليس لدي اعتراض على مبدأ توجيه الاتهام للإخوان أو غيرهم، ولكن اعتراضي ينصب على التسرع في ذلك قبل إجراء أي تحقيق نزيه. علما بأن ذلك التسرع تسبب في تراجع صدقية المتحدث العسكري مثلا، لأنه فعلها في الآونة الأخيرة، ثم تبين أن الحوادث التي أشار إليها قامت بها جماعة أنصار بيت المقدس في مرة، وما سمي بأجناد مصر في مرة ثانية.
الملاحظة الثالثة أن رئيس الوزراء حين ذهب إلى أسوان لكي يعاين المشهد على الطبيعة اصطحب معه وزيري الداخلية والدفاع. وقد كان مفهوما أن يذهب وزير الداخلية، إلا أن انتقال وزير الدفاع الجديد بدا أمرا مستغربا، لأنه أعطى انطباعا بأن ثمة حربا في الجنوب استدعت وجوده على «الجبهة». فضلا عن ذلك فإن ثمة قيادة للمنطقة الجنوبية مقرها أسيوط إضافة إلى القاعدة العسكرية الموجودة في أسوان، بالقرب من الحدود الجنوبية. ووجود من يمثل القيادتين على مسرح الحدث ــ إذا كان ضروريا ــ يؤدي الغرض.
الملاحظة الرابعة أن التحركات الأهلية التي سعت إلى احتواء الموقف وردت في ثناياها أسماء الرياضيين والأزهريين والسلفيين، لكننا لم نلمح إشارة إلى دور للأحزاب السياسية والمدنية التي نرى منتسبيها في استديوهات التلفزيون كل مساء. حتى المجلس القومي لحقوق الإنسان لم نسمع له صوتا في المعمعة.
الملاحظة الخامسة أقتبسها من التقرير الذي نشره الأهرام أمس من مسرح الحدث، وسلط الضوء على جانب مهم من الخلفية الاقتصادية للأزمة. فقد نقل عن صاحب مقهى في أسوان ــ اسمه سعيد محمود ــ قوله إن حالة الفوضى والفراغ والبطالة أصابت معظم أهالي أسوان بعد ثورة 25 يناير. ذلك أن غياب السياحة في المدينة أدى إلى تسريح عدد كبير من العمالة في الفنادق، مما أثر على الجميع، الهلالية والدابودية الذين يملكون عددا من المتاجر السياحية والمقاهي كان يرتادها السائحون من مختلف أقطار العالم، وتدر لهم دخلا جيدا. وهي الضائقة الاقتصادية التي تشكل تربة مواتية لإشاعة التوتر وانفجار العنف.
لا تقلل تلك الملاحظة من شأن الجهد المبذول لاحتواء الأزمة، حيث أكرر الزعم بأن مجرد حضور العقل في التعامل معها يعد أمرا مطمئنا، خصوصا أن لدينا خبرة كافية تسمح لنا بأن نحذر من مغبة تغييب العقل والتعويل على العضلات والقمع وغير ذلك من مفردات الحل الأمني. وهو ما يسوغ لي أن أطرح عدة أسئلة منها ما يلي: ما دام العقل موجودا، فلماذا نرى له حضورا في الصراع الاجتماعي في حين نستبعده وننحيه جانبا حين يتعلق الأمر بالصراع السياسي؟ ولماذا تهدر جهود تقصي الحقائق، وتوصد الأبواب في وجوه الوساطات؟ ولماذا يبقى ذلك الملف المهم في عهدة المؤسسة الأمنية، رغم فشلها في تحقيق الأمن المنشود طوال الأشهر الثمانية الماضية؟
فهمي هويدي/العقل بين حضور وغياب
17
المقالة السابقة