تشرفت خلال الأيام القليلة الماضية بحضور جلسات بعض المحاكم في دول الخليج العربي وهو شرف متزامن مع صداقات شخصية قديمة تربطني بإخوة كرام يشكلون الأجنحة الثلاث للقضاء وهي جناح القضاة وجناح المحامين وجناح النيابة وتعرفت من حضوري لبعض الجلسات على تغيير نوعي في أصناف القضايا المطروحة على جناب المحاكم في المجتمعات الخليجية وأدركت بأن هذه التغييرات تدل على تطور إجتماعي وثقافي وسياسي في وعي المواطن الخليجي والعربي عموما وأيضا على حاجته المتنامية والطبيعية لمعرفة حقوقه وأداء واجباته والسعي المبارك إلى المشاركة الإيجابية في دواليب المجتمع و تحمل رسالة المواطنة الحق من موقع العمل والأسرة. وكانت بعض القضايا المطروحة تتعلق بما يكتب في المواقع الاجتماعية بسبب الاتساع والشمول اللذين ميزا هذه المواقع ومدى تأثيرها سلبا أو إيجابا في ربط علاقات جديدة وطارئة بين أبناء الوطن الواحد وبين أبناء دول مجلس التعاون كأسرة موحدة ومتكاتفة ومتضامنة في السراء والضراء ومن ثم تشكيل رأي عام متفاعل مع أحداث وطنه وهو ما ميز العقد الأخير من تفاعلات فكرية بين الناس والمجموعات من الناس حتى بلغت هذه المواقع أصغر الفئات عمرا وأقلهم إمكانات مادية فأصبح تويتر والواتس أب وغيرهما فضاءات للقاء والتعبير وهذه الظاهرة الطارئة كغيرها من الظواهر لم تخل من إنحرافات وسوء استعمال بل وفي بعض الأحيان من إجرام رقمي كما رأينا في مجتمعات متنوعة. وخلصت إلى أن أهمية مواقع تويتر والواتس أب والفايبر وسواها تجاوزت مجرد كونها وسائل اتصال ألكتروني وسريع ومباشر لتتحول إلى منابر فكرية مؤثرة في توجيه الرأي العام ومن أجل هذه الأهمية المتزايدة يحاول المشرع في دول الخليج مواكبة الانتشار السريع بالتقنين أي بوضع تشريعات وقوانين تضبط سلوكيات وممارسات المتعاملين مع هذه المواقع حتى تصان أعراض المواطنين من القذف والنيل وحتى تحفظ خصوصياتهم وتحمى حميمياتهم ولا تنتهك كرامتهم تحت ستار ما يعتقد بعض المخطئين أنه حرية رأي بينما هو تعد على حقوق الآخرين.
فالقوانين الصحفية ومواثيق الشرف المهني مثلا إلى غاية التسعينيات كانت تتعاطى مع الإعلام المكتوب والمرئي وتحدد العقوبات الموضوعة لكل تجاوز فيعاقب المسييء الذي كتب أو تكلم ويعاقب معه رئيس التحرير المسؤول مدنيا أمام القضاء في حالة ثبوت الجنحة أما وقد أصبحنا نقرأ ونكتب وننشر (تغريدات) خارج أو داخل السرب وفي أحيان كثيرة مجهولة المصدر أو تحت توقيعات تمويهية فإن هذا التحول الاتصالي يحتاج فعلا إلى مراجعة القوانين حتى تواكب الثورة الرقمية الكبرى وينتصر القضاء للحق ويطبق العدل ويكون درعا للمجتمع ويطمئن له قلب المواطن. وإحدى هذه القضايا التي حضرت المرافعات فيها كرجل يحضر جلسات علنية من باب التعمق في المعرفة القانونية والمجتمعية قلت إحدى القضايا تتعلق بشكوى تقدم بها مواطن في إحدى دول الخليج ضد مواطن أخر بسبب تغريدة نشرها على (موقعه) يتهم فيها المشتكي بأنه غير أصيل وأنه متجنس ولا يحق له أن يدلي برأيه في موضوع دستوري فكانت مرافعة المجني عليه تتجاوز ملف الاختلاف والقذف الشخصي لتطرح موضوع المساواة أمام القانون ومحور الحقوق الدستورية التي لا تفرق بين المواطنين على أي أساس عرقي أو مذهبي أو مهني ومن هنا جاء تقديري لجناب العدالة التي اتسع صدرها لسماع الجاني والمجني عليه ووضع القضية في هذا الإطار الأرفع ويكون القاضي في مثل هذه الحالات هو الحامي لحقوق المواطنة والذائد لا على القانون فحسب بل وأيضا على منظومة القيم والمبادئ التي يجب أن تسود هذه المجتمعات الكريمة المسلمة.
أما في تجارب تونس ومصر ما بعد التحولات التي طرأت عليهما منذ سنة 2011 فقد لاحظت أن هذه المواقع تلعب دورا أساسيا في هندسة الوعي الجماعي وانتقال المعلومة صحيحة أو مدلسة من شخص إلى شخص ومن وطن إلى وطن بسرعة البرق وقبل أن يرتد للمرء بصره لتكون تلك المعلومة قاعدة إنطلاق إما لخبر صحيح وإما لشائعة مغرضة حتى نشأت طائفة من الناس (من الشباب عادة) يسمونهم المدونين أي أشباه محترفين للمواقع يزودونها بما يرون من معلومات وأشرطة فيديو وصور وتعليقات ولمثل هذه المدونات آلاف بل أحيانا مئات الآلاف وربما الملايين من المتابعين الأوفياء إلى درجة خفتت فيها أصوات القنوات الفضائية والمحطات الإذاعية لتحل محلها شاشات الكمبيوتر أو الأيبادات أو الهواتف الذكية مما جعل كل مكان في الدنيا مزودا بواي فاي يتحول إلى نوع من انواع المؤتمر الشعبي العام (على قولة القذافي) أو إلى مهرجان ثقافي أو فني لا حدود جغرافية لتأثيره. فالمعلومات المتداولة تونسيا أو مصريا ليست بالتلقائية دائما بل هي تنفيذ لبرامج حزبية أو تخطيط من أصحاب مصالح قديمة لم تتحمل التغييرات ولم تهضم التحولات فاتخذت من هذه المواقع ملاذا أمنا من سطوة القانون لتبث الأكاذيب أو تروج الشائعات أو تبتكر الفضائح وهي ظاهرة غير مسبوقة في العصر الحديث.
و في تونس كما في مصر وجد القضاء نفسه وقوانينه في موقع تسلل لأن التشريعات لا تستطيع ملاحقة الثورة السريعة في الاتصال الجماهيري بسبب غياب مؤسسات الدولة البديلة التي حلت محل الدولة القديمة فانتشر في هاتين الدولتين نوع من الاخلال بالأمن وزعزعة أركان المجتمعات ورأينا القضاة رغم حرصهم على إقامة العدل في قضايا تتعلق بالمواقع الرقمية يعجزون عن إكساء أحكامهم طابع العدل بمعناه الفلسفي والقيمي التقليدي فيلجأون إلى الإجتهاد في تنظير فصول القانون الإعلامي القديم المعد للصحيفة المكتوبة وللإذاعة و للتليزيون حتى يعالج الفصل ما ورد في تغريدة أو على جدار فيسبوك ! إنها معركة و امتحان و تحد أن نبلغ جميعا مرحلة الوعي الجديد بالوسائل الجديدة حفظا لمستقبلنا من العبث و الغبن و الظلم.