أن توقِّع رام الله على خمس عشرة وثيقة خاصة بمنظمات الأمم المتحدة وتسلم طلبات انضمامها إليها أمر جيد، بل هو أمر كان مستوجبًا وقد تأخر كثيرًا، إذ كان من المفترض أن يكون عقب قبول فلسطين عضوا مراقبًا في الهيئة الدولية مباشرة. أما وقد فعلتها أخيرًا وفي مثل هذه الأيام بالذات، فيستحسن من البعض عدم المبالغة فيما سوف يترتب عليها، وبالتالي الهرع إلى المستطاب من مستحب الأوهام، أو الوقوع وإيقاع الآخرين معهم في مطب إسقاط الرغبات.
مثل هذه المبالغة قد تحدث كردة فعل إزاء كل هذه الضوضاء المفتعلة المرافقة لهذه الزوبعة المتعلقة بآخر أشجان مقايضات اللحظة الأخيرة الجارية في حومة محاولات إخراج التوافق حول تمديد المفاوضات بين الصهاينة والأوسلويين الفلسطينيين. أو هذا البديل الأخير لاتفاق إطار كيري العتيد الذي بات الآن من الماضي.
جاء كيري إلى المنطقة وغادرها وسيعود إليها وسط مؤشرات تنبئ باحتمالات اقتراب موعد إعلان توافق شارك في تسريبه ثلاثي أطراف مقايضات أسرى مقابل مفاوضات وعدم التوجه إلى الأمم المتحدة، لكن التعنت الصهيوني المدروس والمزدهر والمتصاعد، والذي في غالبه بالتنسيق مع الحليف الأميركي، عاجل منتظري إعلان الحدث بضربة تحت الحزام هي قرار إنشاء 700 وحدة تهويدية في مستعمرة جيلو، قاطعةً الطريق على التمديد المنشود، مع إضافة أخرى هي التنصل من تنفيذ إطلاق سراح الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو المتفق عليها والمفترض أن تتم آخر الشهر الذي ودعناه، بحيث لم تجد رام الله المكرهة بدًّا من اتخاذ الخطوة المتخذة كرد فعل مقابل لا مفر منها فكانت التواقيع وطلبات الانضمام المشار إليها، والذي حدا كيري إلى إلغاء زيارته المقررة إلى رام الله، ومن هنا كان مثار الزوبعة ومدعاة استدعاء الأوهام وإسقاط الرغائب لدى بعض الفلسطينيين والعرب.
كل ما كان حتى الآن من ضجيج وما تترتب عليه من أوهام لا ينفي اقتراب منتظر لموعد التوافق على تمديد المفاوضات وإن شوَّشت عليه الزوبعة قليلًا. ذلك كان لحقيقة لا تحتاج لبرهان ولا تنفيها الأطراف المنغمسة في البازار التصفوي، وإنما تؤكدها وتصر عليها وهي التفاوض والذي لا من بديل عنه لدى ثلاثتها.
وكان رئيس سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود واضحًا أيما وضوح عندما أكَّد على أن طلبات الانضمام لاتفاقيات الأمم المتحدة المشار إليها لا تعني بحال من الأحوال التخلي عن خيار المفاوضات ولا عن هدف تمديدها، وكان أكثر وضوحًا في توضيحه لاتخاذه خطوة الانضمام هذه عندما قال: “نحن لا نرغب في الصدام مع الإدارة الأميركية، لكن لم يبق أمامنا مفر. لقد بذل كيري جهودًا جبارة والتقينا 39 مرة منذ بدء المفاوضات، ونحن لا نعمل ضد أحد ولكن لم يبق لنا خيار آخر”… ولأنهم لا يرغبون في الصدام مع الأميركان ومع “المانحين”، ويأخذون جهود كيري “الجبارة” بعين الاعتبار، والأهم الأهم أنه ما من بديل لديهم للمفاوضات، فهم لم يقتربوا، مثلًا، من مسألة الانضمام لأهم اثنتين من المؤسسات الدولية بالنسبة للقضية وهما محكمتا العدل والجنايات الدوليتان!!!
إذن، كل ما في الأمر هو أننا حتى الآن إزاء مجرد خطوات تكتيكية تتطلبها ما كنا قد وصفناه بضغوط اللحظة الأخيرة لتحسين شروط تمديد المفاوضات كمطلب ثلاثي، أو بالأحرى تسهيل عملية ابتلاعه ومحاولة تبليعه من قبل كلٍّ من طرفي المعادلة صهاينة وأوسلويين لداخله الذي يعافه ولا يهضمه. أي بلغة أخرى الأخذ في الاعتبار إمكانية التراجع عن هذه الخطوات، أو عدم تنفيذها، من قبل كلٍّ من الطرفين، إذا ما توفرت أخيرًا شروط عقد صفقة المقايضة الكيروية المشار إليها، والتي لم يكن عبثًا أن يتم تسريبها عبر صحيفة “هآرتس”، وهي على الوجه التالي:
أولا، الإفراج عن الجاسوس بولارد، وهو مطلب صهيوني قديم لطالما ووجه بالرفض الأميركي. ويليه، تجميد جزئي أو “هادئ” للتهويد، أي يمكن العودة عنه، بل عمليًّا استمراره لكن دونما إعلان وتحت ذرائع مختلفة، كما أنه أيضًا الأمر الذي لا يشمل القدس. والإفراج عن الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو، وعن 400 أسير إضافي ممن يصفهم الصهاينة بمن “أيديهم غير ملطخة بدماء الإسرائيليين”، أي من جلهم من النساء والقصَّر والمرضى ومن شارفت مدد محكومياتهم على الانتهاء، كما وتنفرد سلطات الاحتلال وحدها باختيارها لمن ستفرج عنه منهم. دون أن ننسى الإشارة إلى أنه يمكنها عادةً إعادة اعتقالهم واعتقال أضعافهم وقتما شاءت. والنظر في طلبات جمع شمل خمسة آلاف عائلة في الضفة وغزة يرفض المحتلون الموافقة عليها منذ سنين. وتسهيل تنقُّل الفلسطينيين على المعابر مع الأردن… وهذا مقابل اثنتين: تمديد المفاوضات إلى نهاية هذا العام، وهي التي موعد نهايتها، كما هو معروف، نهاية شهرنا هذا، وعدم التوجه للأمم المتحدة…
تمديد المفاوضات، بل المفاوضات أساسًا، مصلحة صهيونية خالصة وبالتالي باتت الآن هدفًا أميركيًّا ملحًّا، ولهذا يجهد كيري نفسه وسيبذل ما يستطيعه لتحقيق التمديد المنشود بعد أن عز عليه فرض اتفاق إطاره المتعثر… وما هو مصلحة صهيونية وهدف أميركي فهو قطعًا وبالضرورة كارثة فلسطينية.