عيسى الشعيبي/رجب الطيب وأردوغان الخبيث

لا أود أن يفوتني الوقت، في زحمة الأحداث والتطورات المتسارعة، لاغتنام هذه الإطلالة المتأخرة قليلاً عن زمنها الملائم، كي أبدي بالغ السرور المفعم بالإعجاب، بفوز رئيس الوزراء التركي في الانتخابات البلدية، التي يُجمع المراقبون على أنها كانت بمثابة استفتاء على زعامة رجب طيب أردوغان، الذي بدا لنا من بعيد كمن راح يخوض آخر معاركه السياسية بيأس شديد، ويصارع بمشقّة من أجل البقاء ليس إلا، وذلك بعد كل ما حفل به المشهد التركي مؤخراً من متغيرات لم تكن مواتية لتجديد مثل هذه الزعامة المثيرة للجدل، وتأكيدها مرة أخرى باقتدار كبير.
والحق أن مبعث هذا السرور والإعجاب، لا يصدر عن ذات نبع الابتهاج والحبور اللذين غمرا قلوب قوم طفقوا يهللون ويكبرون لمثل هذا الانتصار العزيز، الذي فاء به المولى عليهم، بعد أن انقبضت صدورهم، وبلغت قلوبهم الحناجر، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فجاء نجاح أردوغان وحزبه كتعويض إلهي لهم عن سلسلة الخسائر التي ألمّت بهم، الأمر الذي ينبغي معه تقديم هذا الاستدراك والتوضيح سلفاً، منعاً لسوء الفهم، ودرءاً لوضع الندى في موضع السيف والعكس -حسب أبوالطيب المتنبي- صحيح.
ذلك أن هذا الانتصار الحقيقي الكبير، إن لم نقل التاريخي أيضاً، يقدم للمخاطبين به خارج آسيا الصغرى، لاسيما في مجالها العربي، دروساً ثمينة تستحق دروبها التنقيب والمحاكاة، وعظاتها البليغة الاستنباط، ناهيك عن تمثل دلالاتها العميقة، الكامنة في تجربة أول زعيم أرسى قواعد حكم إسلامي علماني، وراكم عليه النجاحات مدماكاً فوق مدماك، إلى أن صار نموذجاً ترنو إليه الأبصار، ومصدراً للإلهام، ودليلاً عملياً ملموساً على إمكانية التصالح بين الديمقراطية والإسلام، بعد جملة من التطبيقات المروعة لتجارب عربية متفرقة، وقعت فيها الجماعات الأصولية وهي مفتوحة العيون، فعززت بذلك الشكوك القديمة لدينا بعدم قدرة هذه الجماعات على إجراء مثل هذا التصالح الخلاّق.
إذ مقابل النموذج التركي المشعّ على جواره العربي، بالإنجاز والتقدم على كل صعيد، طوال عقد ونيف من الزمان، كانت النماذج المشابهة لدينا تدعو للتطير، وتعمل على التنفير وتجلب الإحباط، وذلك لسوء الأداء، والإفراط في التسلّط والاستبداد، فضلاً عن تهميش الشركاء، بل وإقصائهم على طول الخط المستقيم، على نحو ما جرى في مصر مؤخراً على أيدي من تشبّهوا بتجربة الأتراك، وقبل ذلك في السودان وفي قطاع غزة، حيث الفشل المحقق والخراب، وحدّث ولا حرج عن التقسيم والانقسام والإفقار، وفوق ذلك كله تعميق الارتياب بالدوافع الكامنة وراء غزوات صناديق الاقتراع.
من هنا كان ينبغي الاستدراك، وتمييز هذه الحفاوة غير الشخصية بفوز أردوغان المستحق بامتياز، عن مظاهر الابتهاج العميم، والتبجيل الشديد لنجاح الزعيم التركي، من جانب أشباه له لم يقتدوا به، ولم يحذوا حذوه. وبعد ذلك، ينبغي مع تقديم هذه التهنئة القلبية إبداء التحفظ على مظاهر سلوك غير ديمقراطي شاب تجربة رئيس حزب العدالة والتنمية في الآونة الأخيرة، وتسجيل الامتعاض إزاء ميوله الاستبدادية في الداخل، وتدخلاته الفظة في الخيارات المصرية مثلاً؛ وهو الأمر الذي أثار حفيظة عرب كثيرين، واستدرج عداوة لا لزوم لها، وجعل بعض من في قلوبهم غرض آخر، يعاودون النبش عن أسباب كراهية تاريخية مع الإرث العثماني، إذ تذكّر بعضهم، فجأة، لواء الاسكندرونة السليب.
على أن المعيار الحاكم لدينا في التقويم الإجمالي لتجربة أردوغان وسياسته العربية، يتمثل أساساً في تضامنه مع غزة، ووقفته الحاسمة إزاء الثورة السورية، منذ يومها الأول؛ إذ ما كان مقدراً لثورة الكرامة والحرية هذه أن تصمد كل هذا الوقت العصيب، وأن تشتد وتتجذر على هذا النحو المتعاظم يوماً بعد يوم، لو أن تركيا بقيادة هذا الزعيم الشجاع، نأت بنفسها عن هذه الثورة العظيمة، الأمر الذي يفسر وحده كل هذا الحزن الذي غشي نفوس المنافحين عن الدكتاتور في دمشق، وفجر ينابيع الغضب والحسرة لديهم، حيال فوز الرجل الذي كان له الفضل الأكبر في إسناد الثورة التي تمضي في تحقيق ما يشبه الإعجاز

شاهد أيضاً

بين خطرين: اسرائيل و ايران* رمضان الرواشدة

عروبة الإخباري – تواجه المنطقة العربية خطرين شديدين لا يقلان عن بعضهما ،ويهددان الأمن القومي …

اترك تعليقاً