زيارة الرئيس باراك أوباما الى الرياض اليوم هو إحياء الثقة وإصلاح العلاقة الأميركية – السعودية لتوطيدها مجدداً. لن يكون «التوريق» السطحي لإخفاء الخلل الذي أصاب العلاقة خلال السنة الماضية مجدياً إذا كان الهدف حقاً إنشاء قواعد ثابتة للعلاقة في أعقاب اهتزاز أُسسها.
والجلطة التي أصابت العلاقة الأميركية – السعودية لها جذور إقليمية لا مناص من المصارحة في شأنها والتعرّف الى أسبابها وكيفية علاجها. إنما هناك أيضاً جانب ثنائي في انحدار العلاقة يتطلب تشخيصاً للعطب ووصفاً لدوائها. الزيارة بحد ذاتها شهادة على استدراك القيادتين الأميركية والسعودية وعزمهما التعرّف إلى ما يجول في بال الآخر. إنها زيارة استفسار بمقدار ما هي زيارة جس نبض لمدى استعداد أي من الطرفين للتأقلم مع المستجدات في خريطة الشرق الأوسط والعلاقات الدولية، أو الافتراق حول بعضها. إيران ومصر وسورية والعراق واليمن ولبنان وفلسطين ستكون موجودة على أجندة المحادثات وكذلك النظام الأمني الخليجي ومحاربة التطرف الإسلامي والإرهاب والسلاح النووي والكيماوي والنفط والغاز. الاستعراض لن يكون كافياً، والتفاهمات التامة ليست في الأفق واقعية. إنما لا بد من أن تخرج هذه الزيارة بمسودة ورقة عمل وبخريطة طريق للعلاقة الأميركية – السعودية ببعدها الثنائي كما بأبعادها الإقليمية. والأرجح أنها ستفعل نظراً الى إقرار واشنطن والرياض بالحاجة الى بعضهما بعضاً في أكثر من ملف ومسار.
أصعب العقد يكمن في تقاطع العلاقة الأميركية – السعودية مع العلاقة الأميركية – الإيرانية كما يرجوها باراك أوباما. تفكيك العقد يتطلب الكثير من الطمأنة بدءاً بإطلاع السعودية على ما يحدث في المفاوضات النووية بين دول «5+1» مع إيران وإيجاد مكان لها في أية محادثات أميركية – إيرانية حول الدور الإيراني الإقليمي.
في وسع الرئيس الأميركي أن يعمل على رعاية حديث سعودي – إيراني نوعي بالذات مع قوى الاعتدال داخل إيران. فهذه القوى شديدة الحرص على علاقة متينة بينها وبين واشنطن. ووفق ما تدّعي، ليست في ذهنها الهيمنة الإقليمية ولا تبني ممارسات «الحرس الثوري» و «فيلق القدس» في البلدان العربية. فإذا صَعُبَ عليها التحدث علناً عما تتطلبه النقلة النوعية المطمئنة للرياض وعواصم عربية أخرى، ففي إمكان باراك أوباما إيجاد قناة خلفية للحديث الأميركي – السعودي – الإيراني، كما وجد القناة العُمانية السرية للأحاديث الأميركية – الإيرانية.
حتى ذلك الحين، وبما أن الكثير من الملفات الإقليمية يتقاطع عند العلاقة السعودية – الإيرانية، من المهم للرئيس الأميركي إيضاح سياساته نحو محطات التقاطع واتخاذ قرارات واضحة لا تراجع عنها.
الإدارة الأميركية عازمة على المضي الى اتفاق نووي مع إيران بحلول شهر تموز (يوليو) خشية أن تفوِّت الفرصة على تفاهمات مع قوى الاعتدال التي يقودها الرئيس حسن روحاني. روزنامة المفاوضات النووية تتزامن مع تنفيذ دمشق تعهداتها التخلص من ترسانة الأسلحة الكيماوية ومع اعتزامها إجراء انتخابات رئاسية تقضي على العملية السياسية الانتقالية التي ترعاها محادثات «جنيف – 2» الدولية.
الحرس الثوري الإيراني لن يعرقل المفاوضات النووية، لأن رفع العقوبات عن إيران مرتبط بإنجاز تلك المفاوضات. والحرس الثوري يريد تلك الأموال ويحتاج اليها كي ينفّذ أجندته في سورية بالذات. فهو يصر على عدم التفريط بالنظام في دمشق نظراً الى مركزية سورية بموقعها على البحر المتوسط وحيوية ممرها الى «حزب الله» في لبنان. أي أن رفع العقوبات بسرعة عن إيران يقع مباشرة في مصلحة قوى التطرف وليس قوى الاعتدال. والحرس الثوري هو الحاكم عملياً في طهران.
المسؤولون السعوديون سيسألون الرئيس أوباما وفريقه كيف ينوون التوفيق بين الانفتاح على إيران الاعتدال وبين الصرامة مع إيران التطرف التي تتمسك بغايات الهيمنة الإقليمية عبر سورية والعراق ولبنان واليمن، وكذلك في منطقة الخليج عبر البحرين والمنطقة الشرقية للسعودية.
المسؤولون الأميركيون سيصرّون لدى المسؤولين السعوديين على ضرورة إعطاء الاعتدال الإيراني فرصة حقيقية وجدية لأنه في مصلحة الجميع. سيؤكدون أن لا عودة عن الانفتاح ولا تراجع في العزم على التوصل الى تفاهمات دائمة في المسألة النووية. سيشددون على أن التهادنية مطلب أميركي وسياسة ثابتة، لأن الولايات المتحدة لا تريد المواجهة العسكرية مع إيران مهما كان.
الاختلاف عميق بين الموقفين من الناحية العملية. فالرياض تعارض التوغّل الإيراني في العراق لدرجة إخراجه من البيت العربي ووضعه تحت الإملاء الإيراني. واشنطن سترد بأنها غادرت العراق ولا شأن لها فيه لدرجة التأثير في انتمائه عربياً أو فارسياً.
الرياض ستصر على أن الدور الإيراني في البحرين مخرّب هدفه الفتنة بل التهام البحرين كما التهم فلاديمير بوتين القرم. واشنطن ستردّ بلغة الانتقاد لكيفية أداء الحكومة في المنامة نحو الأكثرية الشيعية مشددة على ضرورة حفظ حق المواطنة للجميع بمساواة.
سيلتقي موقفاهما في شأن الحرص على المنطقة الشرقية في السعودية ورفض أي تسلل إيراني إليها بهدف التخريب تحت أي ظرف كان. فواشنطن والرياض تتفقان على الرفض القاطع لأية محاولات لزعزعة الاستقرار في المملكة، بغض النظر إن كان إيراني الهوية أو على أيادي التطرف السنّي الآتي عبر «القاعدة» وأمثالها.
مأزقهما سيكون في الشأن السوري وامتداده الى لبنان. فهناك تكمن الحاجة الى قرارات ضرورية لكل من واشنطن والرياض، وهنا يتداخل العنصر الإيراني مع القرار الأميركي بامتياز.
لبنانياً، في وسع إدارة أوباما أن تبدي اهتماماً جدياً قبل فوات الأوان. محاربة قوى التطرف السنّي وقوى الإرهاب الآتي من أمثال «داعش» و «جبهة النصرة» لا بد من أن تكون قراراً أميركياً وسعودياً جازماً بغض النظر عن تبريرات الرد على دخول «حزب الله» طرفاً مباشراً في الحرب السورية. دعم الجيش اللبناني هدف مشترك للولايات المتحدة والسعودية وكلاهما يقدم الدعم له. بقي أن على واشنطن أن تكون حازمة جداً مع طهران لجهة مسؤوليتها عن تحييد لبنان وتنفيذ «حزب الله» سياسة النأي بالنفس وعدم تعطيل انتخابات رئاسية أو تجييرها لتخدم الحزب وليس البلاد.
أما سورياً، فإن زيارة الرئيس الأميركي الى السعودية ستكون مناسبة إما لقرارات نوعية جديدة لواشنطن أو لمحطة أخرى في سمعة التراجع والتأقلم مع أمر واقع تلو الآخر بخضوع للإملاءات الإيرانية والروسية.
المسؤولون الأميركيون يوحون بأن لدى إدارة أوباما عزماً على نقلة في سياسة إدارة أوباما في المسألة السورية. يقولون إن لديهم خطة عمل مع المعارضة المعتدلة هدفها تمكينها عملياً بالسلاح لتتمكن، أولاً، من إحداث تغيير في المعادلة العسكرية إزاء قوى النظام، وثانياً، من إضعاف قوى التطرف والإرهاب التي أقحمت نفسها على الساحة السورية. يؤكدون أنهم في خضم مد المعونة الى المعارضة المعتدلة لوجستياً وتنظيمياً واستراتيجياً.
ما ستتناوله زيارة أوباما الى الرياض سيصب في الدرجة الأولى في النوعية العسكرية للمعارضة السورية. فالحل السياسي الذي يلاقي اجتماعاً شبه دولي يقع اليوم في مأزق عملي والجميع يدرك، باطنياً، أن المسار العسكري هو الرد الوحيد على إخفاق المسار السياسي.
الولايات المتحدة لن تتدخل عسكرياً في سورية تحت أي ظرف كان. هذا أمر شبه مفروغ منه. زيارة أوباما لن تسترجع بالتفاصيل ماذا حدث عندما وصل الرئيس الأميركي الى الساعة الحادية عشرة ثم تراجع من دون أن يخبر شركاءه الفرنسيين أو السعوديين عن الضربة العسكرية التي توعّد بها. الجميع يعرف أن أمامه الخطط الطارئة وأن لا حاجة به الى إرسال القوات الأميركية الى سورية، إنما لا أحد يثق بعزمه التدخل عملياً وعسكرياً، على الأقل حتى الآن.
ما ستتطرق إليه المحادثات في الرياض هو ماذا لدى واشنطن من استراتيجية مضادة للاستراتيجية الإيرانية القائمة على دعم إجراء انتخابات رئاسية تضمن بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة وتطيح فكرة إنشاء هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة نص عليها بيان «جنيف – 1» وكانت المرجعية الواضحة لمؤتمر «جنيف – 2».
حتى الآن، يأتي الرد من المسؤولين الأميركيين برفض شرعية تلك الانتخابات ورفض شرعية نتائجها. أي أن تلك الانتخابات إذا أُجريت فستؤدي الى خلع الشرعية عن بشار الأسد.
الرد السعودي سيكون، حسناً، إنما هذا لا يجدي لأن الانتخابات ستؤدي الى نسف مسار جنيف للمفاوضات، ولأن كلام الشرعية أو اللاشرعية سبق ونطق به الرئيس الأميركي نفسه قبل سنوات، وها هو في المنصب وسورية في كارثة ومأساة.
الحاجة الى استراتيجية مضادة لاستراتيجية الانتخابات تتطلب جدية أميركية وسعودية على السواء. الصين، مثلاً، يجب أن تكون جزءاً من الاستراتيجية المضادة، ذلك أن افتراقها عن روسيا في دعم تلك الانتخابات سيكون له أثر مهم في الخريطة الديبلوماسية. في إمكان كل من واشنطن والرياض العمل جدياً على عزل روسيا في الساحة السورية عبر الإصرار على الصين بأن الوقت حان لاتخاذها موقفاً واضحاً إزاء ما التزمت به بدلاً من الاختباء وراء تضامنها مع روسيا وإيلائها القيادة في المسألة السورية.
هذا بحد ذاته ليس كافياً، ولذلك يجب أن تصدر عن زيارة أوباما الى الرياض خطة عمل متماسكة وخريطة طريق واضحة في المسألة السورية. جزء من تلك الاستراتيجية المضادة يقع في الحديث الأميركي مع طهران. وإذا كان الرهان على قوى الاعتدال سيد الساحة، فهذا لا ينفي ضرورة مطالبة الاعتدال بالتدخل لدى قوى التطرف التي ستستفيد من الانفتاح كي تكف عن تعطيل مسيرة الانفتاح وما يترتب عليها من رفع للعقوبات. فالوسائل متاحة كما الأدوات.
أسهل العقد في زيارة أوباما الى الرياض ستكون في المسألة المصرية، لا سيما أن عبدالفتاح السيسي بات مرشحاً رسمياً للرئاسة في مصر. إدارة أوباما استدركت في المسألة المصرية وعادت عن مسارها في الحملة العربية. والسعودية جعلت من مصر قضية أساسية وتصرفت ببالغ العزم وباستراتيجية متماسكة سوياً مع دولة الإمارات العربية. مصر مطالبة بالكف عن تجريم «الإخوان المسلمين» وتصنيفهم منظمة إرهابية وإصدار أحكام إعدام بالمئات، كما فعلت أخيراً. هذا يتطلب حزماً سعودياً وإماراتياً، لا سيما أن الدولتين تموّلان الدولة المصرية. إنما المهم في إطار العلاقة الأميركية – المصرية أن إدارة أوباما «كوّعت» عن مسارها الخاطئ في مصر وبدأت تتفهم خلفية المواقف السعودية والإماراتية نحو الحدث المصري. بدأت تستمع الى أهمية العزم على استعادة الوزن العربي في موازين القوى الإقليمية، حتى لو لم تباركه.
بالطبع، ستتطرق الزيارة الى مسائل حقوق الإنسان وضرورة تطويرها في السعودية ومن ضمنها حقوق المرأة وحرية التعبير.
الرياض ستؤكد استعدادها لتفعيل المبادرة العربية وتنفيذها الى أقصى الحدود، لا سيما أنها تطمئن واشنطن وإسرائيل معها الى استعداد الدول العربية والإسلامية للتطبيع مع إسرائيل والاعتراف بها إذا أنهت احتلالها الأراضي الفلسطينية.
ثانياً، ستتطرق المحادثات في الرياض الى مركزية توطيد العلاقة الأميركية – السعودية. الحملة في الساحة الأميركية على المملكة العربية السعودية تأخذ دوماً منحى الى 9/11، أي الدور السعودي كما يراه الأميركيون في الإرهاب الذي اصاب أميركا نظراً الى تورط 19 سعودياً في ذلك الإرهاب. الإجراءات السعودية الأخيرة لتجريم مواطنيها المتورطين في الإرهاب عالمياً لم تشق طريقها بعد الى الوعي الأميركي، الشعبي أو الإعلامي… هذه الزيارة يجب أن تُبرز بُعد تلك الإجراءات وأهميتها.
أخيراً، إن زيارة باراك أوباما الى السعودية فرصة للرئيس الأميركي لاستعادة بعض ما خسره شخصياً لدى البيئة العربية ولربما الرأي العام العالمي. إنه اليوم في صدد إعادة صوغ سمعته إزاء المسألة الأوكرانية بحزمه مع روسيا. وهو اليوم مطالب بإعادة صوغ سمعته إزاء المسألة السورية.