أصاب السعار السياسي والفكري والسلوكي بعضًا ممن كنّا نعدهم ونحتسبهم في خانة الأشقاء وشركاء التاريخ والتراب والمصير، ففقدوا رُشدهم – إن وجد أصلا – واستصفت منهم عُمان المجد والتاريخ والشموخ بوقارها وسكينتها ونفعها وإثمارها، كل صفة دنيئة وسلوك مُشين، وأسقطت كل تقية سياسية وفكرية تستروا بها لعقود خلت، في لحظة تاريخية كنا كعُمانيين نحتسب لها، بوعينا الظاهر والباطن، وبزاد تجاربنا والتي عركتها دول الأيام منذ نعومة عهدنا بالتاريخ وقبيل إبرامنا معه إتفاق صناعته برضاه وبحفاوة استثنائية منه.
نحن العُمانيون – للأمانة – “تؤرقنا” أخلاقنا واستحقاقات التاريخ وثوابت الأمة، وتعصمنا – بفضل من الله – من كل خلل وزلل، لهذا فمن يستفزنا اليوم ويختبر حلمنا وصبرنا، يعلم علم اليقين، بأننا نعف كثيرًا عن مجاراته في الخساسة والسفاهة والوضاعة من قول وعمل. فنحن نعلم علم اليقين، كيف تختلف الرجال وكيف تختصم الدول والممالك، وقبل كل ذلك كيف يرد المسلمون الصادقون خلافهم إلى الله ورسوله ويحتكمون إليهما، وبالتالي لايمكن أن ننجر إلى حروب ومواجهات ومماحكات تُخرجنا عن رُشدنا ووقارنا وأطر أخلاقنا وعقائدنا، تحت أي مسمى أو مبرر أو ظرف، ونحن ندعو الله في الغداة والعشي: الحمدلله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام، واللهم لاتُمتنا إلا ونحن مسلمين.
ما حدث في ولاية غرداية بالجزائر الشقيقة مؤخرًا، من مواجهات دامية واحتراب بين مكوّنات نسيج الولاية والمجتمع الجزائري، يمكن أن يحدث – بل وحدث – في جميع دول العالم من قبل وسيحدث من بعد، فتلك من مظاهر دفع الله للناس في الأرض، ومن سيرورة الحياة، وقبل كل ذلك، فهو شأن جزائري محض، ومن مهددات الأمن الوطني الجزائري، وفي إطار سيادة الدولة الجزائرية، وما نحن بصدد بحثه هنا، هو توقيته وانتقائية الضحايا المستهدفين، ثم التجييش المذهبي ضد أتباع المذهب الإباضي تزامنًا مع تلك الأحداث، في رسالة واضحة وجلية للحاضن والنواة وهي سلطنة عُمان، وواضحة كذلك بأنها مُختلقة.
لاشك إننا لم نكن لنعير تلك الأحداث اهتمامًا يفوق حجمها، ولم نكن معنيين بتسكينها خارج المألوف للبشر الأسوياء في تدافعهم، فلا تنوبنا المسؤولية القانونية المباشرة لرعايا دول أخرى، فللبيت رب يحميه، ونحن أصحاب الإبل، كما قال الهاشمي عبدالمطلب لأبرهة الحبشي، فكبشر أسوياء لابد أن نشعر بالمسؤولية الأخلاقية والدينية تجاه إهراق دماء مسلمين أو قتل أنفس بريئة بغير حق في أي بقعة على ظهر الأرض.
غرداية، لمن لايعرفها، مدينة وادعة جنوب العاصمة الجزائرية وتبعد عنها قرابة 600 كلم، ويُقال أن اسمها مشتق من غار داية وقد كان يأتيها عيشها رغدًا، ويتعايش ساكنوها من عرب وبربر بصورة مثالية ويتقاسمون حلو الحياة ومرّها، وتقطنها الطائفة الإباضية الكريمة والتي يُقدر عدد أفرادها – على كامل التراب الجزائري – ما بين 500 إلى 700 ألف نسمة، ويُحسبون عرقيًا على العرق البربري أوما يُعرف بالأمازيغ كذلك، وهم بهذا يُشكلون أكبر تجمع للإباضيّة في المغرب العربي، يليهم إباضيّة تونس ثمّ إباضيّة ليبيا. ويتركز إباضيّة الجزائر في وادي بني ميزاب بولاية غرداية، ويُعرفون في الجزائر بالميزابية أو الميزابيين، وعُرفوا بمزاولة التجارة، والالتزام الديني والانضباط الأخلاقي، والتكافل وقيم التجارة.
كما تعايشوا بصورة مثالية، مع محيطهم ونسيجهم الأوسع والأكبر الجزائر والعرب والمذهب المالكي السائد في الجزائر وأقطار المغرب العربي. وما يميزهم عن غيرهم من بعض طوائف البربر أنّهم فخورون بعروبتهم، فقد حسموا مبكرًا سجال العروبة والبربرية ويرددون بفخر: نحن بربر عرّبنا الإسلام، لسد باب الذرائع والاختراق العرقي وتوظيفه بسوء.
لم يشتغل الميزابيون بالسياسة، وظلوا أوفياء لقناعاتهم، ومتفانون لخدمتها، من إلتزام، وتجنب المشكلات والنعرات، والحرص على التكافل وتربية الناشئة التربية العربية الإسلامية الحميدة، مع الإسهام الإيجابي في وطنهم الأم الجزائر.
رغم إيثارهم الاشتغال بالذات، خرج منهم رجال دين وفكر وسياسة وأدب يُشار لهم بالبنان، من أمثال الأعلام الشيخ محمد بن بكر الفرسطائي، والشيخ الثميني، والعلامة محمد بن يوسف أطفيش صاحب كتاب شرح النيل وتيسير التفسير، والشيخ إبراهيم بيوض رفيق العلامة الجزائري عبدالحميد بن باديس، والذي وقف في وجه المشروع الفرنسي لفصل الجنوب الجزائري وتصدى له ، والشيخ عبدالرحمن بكلي، والشيخ ناصر المرموري مدير المدرسة العُمانية بالقاهرة عام 1956م، والشيخ سعيد عدون، والشاعر الفذ مُفدي زكريا، شاعر الثورة الجزائرية والنشيد الوطني الجزائري، ومحمد خُبزي وزير الاقتصاد الجزائري في منتصف الستينيات من القرن الفارط، والمستشار والحقوقي يحي بكوش النائب العام في الجزائر. كما برز في تونس من أبناء الطائفة الإباضية الكريمة، القامة النضالية الوطنية صالح بن يوسف، والعلامة الدكتور فرحات الجعبيري.
تُجار الدم العربي والإسلامي، من أتباع الفرقة الضالة، ممن إرتضوا لأنفسهم خوض حروب الوكالة عن أعداء الأمة، واستباحوا بلاد المسلمين ودماءهم وأعراضهم، دون وجه حق، أبوا إلا أن يكشفوا عن حقيقة عقيدتهم ودورهم الوظيفي البائس تجاه أطياف الأمة وبالتناوب وبذرائع يلفظها العقل السوي ويرفضها المنطق. وهاهم يتساقطون اليوم كالحشرات الضارة، ويعترفون بأنّهم – من قذاراتهم – كانوا يقومون بتفخيخ وتفجير بيوت الله في سوريا لشيطنة النظام واستفزاز الأكثرية السُنية والتي تُشكل الجيش العربي السوري، ألم يكونوا هؤلاء الأفاقين، من يزعمون ليل نهار بأنّهم مجاهدون في سبيل الله، وأنّ أهل السُنة يُقتلون على أيدي الشيعة وجيش بشار كما يفترون !!؟ حقيقة من تصل به الوضاعة والسفاهة بأن يجعل من بيوت الله أداة في سياق حرب قذرة لخدمة الشيطان، فلايمكن لعاقل أن يرجو منه خيرًا أو يستبعد منه شرًا على الإطلاق.
نبشركم، بأنّ عُمان أكبر من أن تنساق أو تُستدرج إلى هكذا مواجهات دنيئة ومؤامرات قذرة، وإن صبر عمان وحلمها وترفعها سيجعلها كعود زاده الإحراق طيبًا، حلم عُمان وترفعها عن الدنس، سيجعلكم تتآكلون ذاتيًا كالبكتيريا الضارة حتى التلاشي، وكمصير حتمي لكل ظلام جهول، مشكلتكم ليست مع عُمان، وليست مع الإباضية، بل مع جميع مذاهب الإسلام وأتباعها بالنسبة والتناسب ومع جميع الرسالات السماوية وأتباعها ومع جميع الأديان الوضعية وأتباعها، فلأول مرة “تعدلون” منذ نشأتكم الأولى، وتبسطون الظلم والمظالم على جميع البشر وبلا اسثناء، وترجون الثأر والقصاص من قبلهم كذلك، وفي أقرب أجل.” وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا “صدق الله العظيم (الفرقان 63).
Ali95312606@gmail.com