منذ الثامن عشر من شهرنا هذا باتت الخريطة الروسية المترامية أكثر اتساعًا. انضمت أو ضُمَّت إليها لا فرق شبه جزيرة القرم ومدينة سيفاستيبول. وبعيدًا عن كل هذا الفحيح العقابي المتوعد من قبل الغرب المصدوم والمرتبك والمتفاجئ من مدى الحزم وسرعة الحسم الروسي، فإن واقع ما بعد الحدث يقول: لقد سبق السيف العذل، وطارت القرم من أوكراينا لتحط في الحضن الروسي، بحيث لم يجد رئيس وزراء أوكراينا الموالي للغرب، أو الذي نصبه الميدان إثر الانقلاب على اتفاق الرئيس المعزول يانوكوفيتش مع المعارضة، بدًّا من القول بأن احتمال انضمام بلاده لحلف الأطلسي هو غير وارد وذلك “حفاظًا على وحدة أوكراينا”… ماذا يعني هذا؟!
إن الأوكران المراهنين على محرِّضهم الغربي ربما قد أدركوا بعد فوات الأوان حدود ما يمكن لهذا الغرب فعله في الأزمة الأوكرانية، ولعلهم الآن قد وعوا درس القرم، الذي ليس من الصعب على الروس تكراره إن اضطروا لمثله في الشرق الأوكراني.
والعجيب أنه كان من السهل حتى لمبتدئ يعرف ألف باء تاريخ وجغرافيا وثقافة وأهمية هذه المنطقة الجيوسياسية شديدة الحساسية، التكهن المسبق بأن أية مكاسرة إرادات بين الغرب الجانح لمزيد من التوسع في شرقه الأوروبي وروسيا التي ليست في حال المدافع عن مناطق نفوذه التاريخي فحسب، بل عن نفسها نظرًا لاقتراب الزحف الغربي إلى حيث أسيجتها، سوف تكون نتيجته تقسيم أوكراينا إن لزم الأمر وليس عودة القرم إلى روسيا فقط.
وكان على الأوكران أن يدركوا ما لا بد لهم أن يدركوه ولو متأخرًا من أن الغرب لا تهمه وحدة أوكراينا بقدر ما يهمه استنزاف روسيا وابتزازها. وقد يلوح فيما قاله رئيس الوزراء الأوكراني بعض من تسليم بإضاعة القرم وخشية من الآتي بعده، أو ما كان على الأوكران تجنبه قبل ذهابهم بعيدًا في استجاباتهم للتحريض الغربي، ومنه انقلابهم على الاتفاق مع يانوكوفيتش لحل أزمة الحكم. كما أن كيري أيضا، وبغض النظرعن تهديداته، لم يك بعيدًا عن مثل هذا، عندما لم يجد ما يقوله سوى تحذير الروس من دخول جيشهم إلى شرق أوكراينا. لكن بوتين عاجل هؤلاء بقوله، “لا نريد تفكيك أوكراينا. لسنا في حاجة لذلك”.
وفعلًا هو ليس في حاجة لذلك: عادت القرم الروسية أصلًا إلى سابقها قبل أن يهبها خروتشوف إلى أوكراينا، وأمن الأسطول الروسي على بقائه في عرينه على ضفاف البحر الأسود، وأوكراينا إذا ما أرادت أن تبقى كما هي راهنا لن تجرؤ على التأطلس، بل والغرب لم يطرح تأطلسها أصلًا ولا أعتقد أنه سيفعل، لأن هذا إن كان فلسوف يلحق شرقها وجنوبها بالقرم ويغدو غربها، أو ما تبقى منها، عالة وعبئًا على الغرب الذي بات يخشى من اقتراب يوم عجزه عن إعالة نفسه اقتصاديًّا، وبدا يحس رويدًا رويدًا بثقل التحولات الكونية وإن لم يقتنع بعد بحتميتها.
في خطاب بوتين الذي أعقب توقيع معاهدة انضمام القرم وسيفاستيبول لبلاده قال إن “دول الغرب قد تخطت الخط الأحمر في أوكراينا”، وحذَّر الغربيين من أن “روسيا قد وصلت حدود النابض الذي إن ضغطتم عليه أكثر سوف ينفجر في وجوهكم وعليكم احترامها”، ثم انصرف ليشترك في الاحتفال الشعبي باستعادة القرم في الساحة الحمراء … ولماذا لا يحتفل؟
لقد استعاده دون أن يطلق رصاصة واحدة رادًّا الصاع صاعين لشركائه الغربيين الحريص والحريصين مثله على عدم قطع شعرة معاوية، واصفًا سياساتهم بـ”الأسوأ من المعايير المزدوجة، بل هي عبارة عن وقاحة عنيدة مثيرة للدهشة”. داوى عارضهم الأوكراني بذات الوصفة التي ابتدعوها في كوسوفو عندما أرادوا فصلها عن صربيا، وقبلها في جزر المالديف الأرجنتينية، مع فارق لصالحه وهو أن القرم جمهورية ذات أغلبية روسية تتمتع بحكم ذاتي داخل أوكراينا لا الحكم الذاتي وحده. وحيث ليس بوسع أوكراينا فعل أكثر من ما هو الخروج من مجموعة الدول المستقلة وفرض التأشيرات على المواطنين الروس، فما الذي بوسع الغرب فعله؟!
إنه قطعًا لن يذهب للحرب من أجل سواد عيون الأوكران، أي أنه لن يجد في جعبته سوى العقوبات المتدرجة التي سخر منها الروس وقالوا بأنها سوف ترتد على فارضيها وبدأوا في إعلان قوائم عقوباتهم المقابلة لها… لكن هل سيكتفي الغرب بهذا؟! قطعًا لا، فالغرب الذي تلقى لطمتين في آن، الأولى في يبرود السورية والثانية في القرم التي باتت روسية، ليس من السهل عليه هضمهما، ونظرًا لبعض من قلة حيلة فلسوف يلجأ إلى ما اعتاد اللجوء إليه عادة وهو التآمر وإثارة الفتن وتغذيتها إلى جانب تحريك امتداداته وأدواته كما فعل ويفعل الآن في سوريا، أو ما بات بوتين يحذر الروس منه حين قال في خطاب ما قبل الاحتفال الشعبي في الساحة الحمراء، إن روسيا سوف تتصدى ليس لمن يرهبونها بالعقوبات فقط بل بتفاقم المشاكل الداخلية جراءها.
هنا سوف تكون استهانة غربية خاطئة بالروح القومية الروسية والتي من شأنها أن تجعل من بوتين القرم خليفة لبطرس الأكبر في الوجدان الروسي.
للروس أوراقهم التي تتعدى الطاقة والاستثمارات لمئات الشركات الغربية في روسيا، ومليارات أصول أموال نخبهم المكدسة في الغرب، والتعامل بالدولار، وقطع الإمدادات عن الجيوش المنهزمة في بلاد الأفغان… عالمنا كله الآن بات ساحة لمكاسرة بين إرادتين لاصطفافين متلاطمين، واحد يعاني أعراض بدايات أفوله، وصاعد تتزايد صفوفه وتتعاظم ممانعاته وتتصلب مواجهاته… وما القرم إلا مجرد واحدة على الحساب…