لطالما كتبت عن الموت في سوريا.. عن الشهداء والجرحى وعن الدماء التي تسيل كالأنهار، وعن الرجال والنساء والأطفال الذين تقتلهم البراميل المتفجرة والقنابل العنقودية والفراغية والكيماوية، وعن أولئك الذين يموتون غيلة وغدرا وتعسفا، وعن الزهور التي يقصفها وحوش الأسد في كل مدينة وحارة وزقاق.
لطالما كتبت عن 200 ألف شهيد قتلهم الإرهابي بشار الأسد ومجرمو قوات الدفاع العلوية وحزب الله وعصائب الحق وكتائب ابو الفضل العباس وغيرهم من القتلة الذين يذبحون الشعب السوري منذ 3 سنوات على مرأى ومسمع من العالم كله.
لطالما كتبت عن أطفال سوريا الذين يقتلهم همجيو القرن الحادي والعشرين، الذين سفكوا دماء 10.000 طفل وطفلة في كل أنحاء الشام، لأنهم يريدون أن يقتلوا مستقبل سوريا، لكنها المرة الأولى التي يطرق الموت بابي ليصبح مسالة شخصية، بل شخصية جدا، فإن تتحدث عن الآخرين شيء، وان تتحدث عن السكين التي تغرز تحت جلدك شيء آخر، فالموت داهم صديقي مهند إسكيف، لم يداهمه كما يموت البشر العاديين، بل قضى تحت سياط الجلادين الحاقدين على كل شيء.. فقط شهران من الاعتقال.. شهران من التعذيب كانت كافية لقتله.
لم يكن مهند سياسيا، ولم يكن حزبيا ولم لديه أجندة سرية وخفية، ولم يكن جزءا من صفقة ولا من مؤامرة، كان شابا عاديا ولم يكن لديه أن تطلعات، كان عاديا.. عاديا جدا، لكنه تحول فجأة إلى ضحية وجثة هامدة مفقودة.. قتلوه وسلموا أمه وثيقة وفاته ورفضوا أن يسلموا جثته أو رفاته، كما يحدث مع آلاف السوريين الأبرياء ممن تقتلهم آلة الموت الأسدية الإرهابية.
قبل اندلاع الثورة العربية في تونس كنت دمشق في زيارة هي الأولى من نوعها ونزلت ضيفا في منزل مهند.. كان منزلا متواضعا في منطقة ركن الفقيرة، وتحتاج إلى الكثير من الجهد والتعب لكي تصل إليه، لكنه كان منزلا مليئا بالمحبة والأخوة.. تجولت معه في دمشق والمسجد الأموي وسوق الحميدية والحريقة.. كنا ننتقل من مكان إلى مكان، وكان دليلي في دمشق وعيني التي أرى بها، وكان رفيقا لا يمل بل يبعث الفرح والسرور في النفس.
اليوم يغيب مهند عن الوجود غيلة، يغيب قسرا وقهرا وسجنا وتعذيبا في سجون طاغية قاتل لا يرحم، ويقتل تحت التعذيب الإجرامي الذي لا تعرف له البشرية مثيلا، يموت ويعلن وفاته دون أن تظهر جثته، ودون أن تسلم لامه المكلومة الحزينة، يموت نصف موت بانتظار النصف الثاني. تماما كما قتل اثنان من أعمامه واحد أبناء عمه تحت التعذيب قبل شهور قليله
لم افعل الكثير من أجل الثورة السورية، سوى الكتابة، فلست مقاتلا، ولم احمل يوما سلاحا.. لم افعل الكثير لضحايا البربرية سوى الحزن على الشهداء والجرحى والمغتصبات والمعتقلين والمفقودين، لكن الحزن اليوم أصبح شخصيا بل شخصيا جدا، فالغائب صديقي والمقتول صديقي والمفقود صديقي والمسجون صديقي والمعذب صديقي لأن مهند كان غائبا ومغيبا ومفقودا ومسجونا ومعذبا ومقتولا.
عزاؤنا أن دم مهند ودماء جميع الشهداء في سوريا لن تذهب، وأن الشعوب لا تنسى ضحاياها، ولن تنسى قتلاها وأن القصاص قادم لا محالة بإذن الله.. عزاءنا أن دماء الشهداء هي وقود الثورة ومشاعل الضياء نحو الحرية والكرامة، ودماء مهند صبت في نفس النهر الذي تجري فيه دماء 200 ألف شهيد، ودماء مئات الآلاف من الجرحى.
يجتاحني الألم الذي يحرق الروح، ويغوص بي الجرح الملوع للقلب على مهند، هذا الشاب الذي اكتب رثاءه قبل أوانه، وكنت أود أن لا أفعل ذلك.. رحم الله الشهيد مهند، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وأحسن عزاء أمه وشقيقيه مؤيد وعبد الرزاق ورزقهم الصبر.. فالمصاب جلل، لكنها ضريبة الحرية التي يدفعها الشعب السوري العظيم.. و “إنا لله وإنا إليه راجعون”.