اكتملت أمس ثلاثة أعوام على انطلاق الثورة السورية. مرت هذه الثورة بتحولات ومنعرجات ونجاحات وانكسارات عدة، وفي كل ذلك كان الشعب السوري هو الذي يدفع أثماناً، ويتحمل آلام ما يحصل. تبلورت على مدى هذه الأعوام الثلاثة صورة الشعب في مقابل النظام. ليس في هذا شيء جديد إلا أمر واحد، وهو أن هذا التقابل لم يتعمد من قبل بمثل هذا الكم الهائل من الدماء والآلام والدمار.
أراد النظام بدمويته المعروفة أن يضع الشعب أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الدم، أو الخضوع لإرادته. كيف يمكن أن تكون النتيجة النهائية لمعركة يتقابل فيها الشعب مع النظام على هذا النحو؟ سيقول بعضهم إن التنظيمات الإرهابية المنخرطة لا تمثل الشعب. وهذا صحيح، لكن النظام هو الذي أدخل هذه التنظيمات في المعركة ابتداء. كان بإمكانه أن يختار طريق الحوار والاحتواء، لكن تاريخه وطبيعته وتحالفاته الطائفية لم تسمح له بذلك، لا من قبل ولا من بعد. قيل أيضاً إن الثورة أخطأت عندما انجرت إلى معركة كان يريدها النظام. وهذا ليس صحيحاً، وليس دقيقاً.
يشبه النظام السوري بتركيبته وأهدافه النظام الإسرائيلي. تغتصب أقلية طائفية الحكم وسط غالبية ساحقة، فتتحصن داخل عقلية «الماسادا»، وهي عقلية لا تعرف ولا تعترف بشيء اسمه الحق أو الشرعية أو الحوار. لا تعرف ولا تطمئن إلا لتصفية المعارض، أو الانتحار إذا فشلت في ذلك. تاريخ النظام السوري تاريخ حلول أمنية منذ يومه الأول عام 1963، مروراً بانقلاب 1970، حتى بداية الثورة. من يتحدث عن مسألة خيار بين حل أمني وغيره يتحدث عن شيء وتاريخ لا وجود لهما.
نعم، حقق النظام نجاحات عدة لا يمكن تجاهلها. نجح في تحويل الثورة إلى حرب أهلية مدمرة، فجّر صراعات طائفية لم تعرفها سورية من قبل، استدعى المقاتلين من كل حدب وصوب للمشاركة في الحرب من منطلقات طائفية، استدعى «داعش» و «جبهة النصرة» ومثيلاتهما أولاً من قوائم معتقلاته المترامية في أنحاء سورية، وثانياً باستعانته من منطلق عصبية طائفية بمقاتلي ميليشيات «حزب الله» اللبناني و «كتائب أبو الفضل العباس»، و «عصائب أهل الحق» من العراق. ومن المنطلق ذاته استعان بضباط «الحرس الثوري» الإيراني ومقاتليه، وقبل ذلك -منذ اليوم الأول للثورة- كان أطلق يد «ميليشيا الشبيحة» في الاعتداء والقتل والمداهمة والاختطاف في كل أنحاء سورية المتمردة. كشفت سرعة انطلاق هذه الميليشيات وانتشارها عن إعدادها وتجهيز كوادرها قبل الثورة بأعوام لمواجهة مثل هذا الطارئ، ولتكون خط الدفاع الأول عن النظام. تنتمي الغالبية الساحقة من الشبيحة إلى طائفة الرئيس وأقاربه في قيادة النظام.
من نجاحات نظام الأسد أيضاً، أنه مستمر في تدمير سورية: دمر المدن والقرى والأرياف والأحياء بقصف لا يتوقف، وبكل أنواع الأسلحة. قتل ما يقرب من 200 ألف مواطن، وهجّر أكثر من 9 ملايين سوري داخل سورية، وأكثر من مليونين ونصف المليون خارج سورية -وفق إحصاءات الأمم المتحدة كما نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية أمس-، وقتل أكثر من 10 آلاف طفل سوري. ووفقاً للإحصاءات نفسها، فكل دقيقة يتحول ثلاثة سوريين إلى لاجئين في الخارج، وكل دقيقتين يضطر ثمانية أطفال سوريين إلى مغادرة منازلهم، ولذلك، ارتفع عدد الأطفال المشردين من 920 ألفاً إلى ما يقرب من 3 ملايين مشرد. ووفق «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، سقط أكثر من 146 ألف قتيل، وهذا رقم متحفظ، لأنه لا يتضمن من قُتلوا تحت التعذيب في معتقلات النظام، ومن ماتوا مشردين في مناطق نائية، ومن اختفوا ولا أحد يعرف عنهم شيئاً. والأرجح أن صورة الدمار في سورية أكبر وأبشع مما تبدو بكثير، وهذه حصيلة طبيعية أخذاً بالاعتبار دموية النظام وهمجيته.
استخدم كل أنواع الأسلحة، بما فيها البراميل المتفجرة والكيماوي، ولم يتوانَ لحظة واحدة عن استخدام سلاح آخر لا يقل فتكاً ضد المواطنين، سلاح الحصار والتجويع، وقطع كل أنواع الخدمات عن الأحياء والمناطق المتمردة. وضع النظام المواطن أمام خيارين: أن ينحاز إليه ويناهض التمرد، أو أن يواجه كل احتمالات القتل، الموت جوعاً أو من المرض أو تحت القصف.
من أسلحة النظام أيضاً الخطف والاعتقال والتعذيب والإعدام والتصفيات الجماعية، وكان آخر ما كشف عن ذلك -بالصور (55 ألف صورة)- وفاة 11 ألف مواطن تحت التعذيب في المعتقلات، وهذا ما كشف عنه انشقاق من كان يتولى تصوير جثث القتلى في المعتقلات، وهرّب معه نسخاً إلكترونية لآلاف صور الجثث، وحظي هذا الموضوع بتغطية واسعة في الإعلام العربي والدولي.
ومن نجاحات النظام البارزة، أنه حوّل ما كان يُعرف بـ«الجيش العربي السوري» إلى أكبر وأقوى ميليشيا في حرب أهلية تدور رحاها منذ ثلاثة أعوام. كان لهذا الجيش تاريخ وطني باذخ أمام الاستعمار وأمام العدو الإسرائيلي، ثم عبث نظام البعث تحت حكم الأسد بتاريخ هذا الجيش وبتركيبته وعقيدته الوطنية، ما انتهى به إلى الانحراف عن دوره الأصلي. بات دوره يقتصر على حماية عائلة تمسك بالحكم تحت غطاء الطائفية، وتتحالف مع إيران في سياق طائفي يمتد من طهران مروراً بالعراق لينتهي في الضاحية الجنوبية من بيروت. لم يعد لهذا الجيش نصيب من الاسم الذي كان يعرف به. عندما يلغ الجيش في دم الشعب على النحو الذي يحدث في سورية الآن، يفقد هذا الجيش دوره الوطني ويخسر هويته الوطنية. ما يسمى بـ«الجيش العربي السوري» يقتل الشعب السوري، لأجل أن يبقى الأسد في الحكم، وهذا دور لا تضطلع به إلا ميليشيا تتدثر باسم «الجيش العربي السوري».
قيل للسوريين على مدى أكثر من 40 عاماً إن هذا «الجيش» ينتظر لحظة مواجهة مقبلة مع العدو على الحدود الغربية لتحرير الجولان. كان يقال إن النظام السوري في الأصل نظام مقاومة، لكن ما يقال شيء، وما يحصل على الأرض شيء آخر.
قتل «الجيش العربي السوري» في ثلاثة أعوام من السوريين فقط أضعاف ما قتل «جيش الدفاع الإسرائيلي» من العرب على مدى أكثر من 60 عاماً. كان الكلام يباع للسوريين وللشعوب العربية. من سوء حظ الأسد أن الغالبية لم تكن تأخذ كلامه على محمل الجد، وجاء الزمن ليبرهن صحة رؤية هذه الغالبية. قبل الأسد بعقود قال من هم أكثر منه صدقية ووطنية الكلام نفسه، ورددوه كثيراً، لكنه لم يؤدِّ إلى شيء. على الأرض كانت «مقاومة» النظام السوري متروكة لمقاتلي «حزب الله» على الحدود الجنوبية اللبنانية، وداخل سورية يعتمد النظام على الطائفة وأجهزته الأمنية، وعلى تحالف مغلق مع إيران لقمع الشعب السوري. لم تكن في الأمر مقاومة، وإنما لعبة سياسية دموية، كان ولا يزال هذا الشعب يدفع ثمنها من دمه، ومن مستقبله، ومن تاريخه.
هل ما نجح فيه النظام حتى الآن يمثل علامة انتصار؟ في مثل هذا الصراع الملحمي هناك فاصل كبير من الوهم بين الانتصار والانتحار. وعلى رغم تخاذل إدارة أوباما الأميركية، والدور العدواني لروسيا وإيران، وتخاذل العرب وفشلهم في إنقاذ الشعب السوري من نظامه، فإن هذا الصراع مرشح لما هو أكثر من ثلاثة أعوام بكثير، وستكون على الجميع المشاركة في دفع أثمانه بأكثر مما يتصور بعضهم. لم يحدث في التاريخ أن انتصر الإرهاب على الشعب. ولن تكون سورية استثناء في ذلك.
* أكاديمي وكاتب سعودي