أسدت إلينا إسرائيل أكثر من خدمة دون أن تدرى. من ناحية لأنها بعدوانها على غزة وقتلها لنفر من خيرة شبابها ذكرتنا بوجهها القبيح، بعدما غيبته وسائل الإعلام المصرية التي باتت مشغولة بالاحتراب العربي وبمعارك الإرهاب في الداخل، حتى نسي كثيرون أن هناك عدوا يتربص بالجميع اسمه إسرائيل. من ناحية ثانية لأنها نبهتنا إلى أن المقاومة لم تلفظ أنفاسها بعد، ولا تزال رافضة للانبطاح. بل وبمقدورها أن ترد بما يزعج الإسرائيليين ويجعلهم يهرولون إلى الملاجئ. من ناحية ثالثة فإن إسرائيل بالجريمة التي ارتكبتها كشفت لنا عن بعض التشوهات التي أحدثها إعلام الكراهية في بعض شرائح المصريين، حتى وجدنا بعضا من النخب ــ أحدهم وزير خارجية أسبق ــ سارعوا إلى إدانة حركة حماس واتهموها بالسعي إلى استفزاز إسرائيل انسياقا وراء حملة الشيطنة التي تشنها وسائل الإعلام المصرية، رغم أن شرف الرد على الإسرائيليين كان من نصيب حركة الجهاد الإسلامي وليس حماس.
حقيقة القصة أن إسرائيل انتهزت فرصة انصراف العالم العربي عنها وانشغاله بالمعارك الصغيرة بين «الإخوة الأعداء» ولم تكتف بما ترتكبه من جرائم يومية على الأرض، من خلال التوسع في الاستيطان والاستمرار في التهويد الذي يستهدف استئصال الوجود الفلسطيني. ولم تشبع نهمها الجهود التي تبذل على مهل لإماتة القضية وإغلاق ملفاتها من خلال فرقعات التسوية السلمية وأوهام الدولتين التي تطلق في الفضاء الفلسطيني بين الحين والآخر. حتى التهدئة التي تم التوصل إليها بوساطة مصرية منذ سنتين وبمقتضاها جمدت المقاومة أنشطتها مؤقتا من غزة لم ترض غرورها وأحلامها الوحشية. ذلك كله لم تقنع به إسرائيل، فعمدت أخيرا إلى قتل نحو عشرة من الفلسطينيين في الضفة الغربية والقطاع، كان من بينهم ثلاثة في غزة من عناصر حركة الجهاد الإسلامي التي كانت طرفا في اتفاق التهدئة. ولأن هذه لم تكن المرة الأولى، ولأن إسرائيل انتهكت الاتفاق 1400 مرة منذ توقيعه قبل سنتين، فإن حركة الجهاد الإسلامي التي فاض بها الكيل قررت أن ترد على قتل كوادرها خلافا لما اتفق عليه. حينئذ قررت قيادة سرايا القدس الجناح العسكري للحركة أن ترد فأطلقت عناصرها 90 صاروخا استهدفت الداخل الإسرائيلي، وهو ما ردت عليه إسرائيل بشن غاراتها مستهدفة مواقع الجهاد الإسلامي في البيت لاهيا ورفح.
لم يكن التصعيد عسكريا فحسب، ولكنه كان سياسيا أيضا، لأن وزير الخارجية الإسرائيلي دعا إلى احتلال القطاع مرة أخرى، كما تنافس القادة الإسرائيليون في المطالبة بردع المقاومة في القطاع واجتثاثها بمختلف السبل.
حركة حماس حملت إسرائيل المسؤولية عما جرى، باعتبار أنها من بادر بقتل الفلسطينيين، وأعلنت أنها في هذه الحالة لا تستطيع أن تمنع أي فصيل فلسطيني من الرد على أي عدوان يقع عليه من جانب الإسرائيليين رغم سريان اتفاق التهدئة.
المشهد في القطاع يثير سؤالين سمعتهما من أكثر من شخص، وعبرت عنها بعض الكتابات الصحفية. وهناك ملاحظة سبقت الإشارة إليها تعلقت بادعاء البعض تعمد حماس والجهاد الإسلامي استفزاز إسرائيل «لاستعطاف» مصر ودفعها إلى التدخل. وقد اعتبرت أنها مما ينبغي تجاهله، لأنه من العيب أن تذكر أصلا، ومن العيب أن يرد عليها. السؤالان اللذان أعنيهما هما: أين المقاومة في أداء حماس أو حركة الجهاد أو غيرهما من الفصائل؟ ثم ما جدوى تلك الصواريخ التي تطلق في الفضاء لتسقط في أرض فضاء؟ ثمة كلام كثير في الرد على السؤالين يتطلب حيزا أكبر من المتاح، لكني سأختصره فيما يلي: بخصوص المقاومة فحدها الأقصى أن تنتصر، وحدها الأدنى ألا تنكسر، والانتصار مفهوم. أما المستوى الآخر المقاومة فيتمثل في رفض التسليم بما يريده العدو مع الإعداد لمواجهته وتحدِّيه إذا لزم الأمر. وذلك هو الحاصل في غزة بالضبط. وينبغي ألا ينسى أن المقاومة في القطاع نجحت في صد الاجتياحات الإسرائيلية وأفشلتها طوال الوقت. بدليل أن غزة لا تزال صامدة حتى الآن. علما بأن القطاع يمارس ذلك الصمود والتحدي في ظل حصار شديد وبيئة عربية غير مواتية، أقرب إلى مصالحة إسرائيل منها إلى مقاومة عدوانها. علما بأن المقاومة لا تعاني فقط من انقسام الصف الفلسطيني، لكنها تعاني أيضا من أصداء الصراعات العربية. آية ذلك مثلا أنه في الوقت الذي تعرضت فيه غزة للغارات الإسرائيلية، فإن دولة الإمارات العربية علقت العمل بمشروع مدينة الأسرى المحررين الذي كان مقررا تنفيذه وسط القطاع. وأغلب الظن أنها أرادت بذلك أن تعبر عن التضامن مع الموقف المصري الأخير المشتبك مع حركة حماس. والعهدة في ذلك وزير الأشغال في حكومة حماس السيد يوسف الفريز.
أما سؤال الجدوى فردي عليه أن صواريخ المقاومة فضلا عن رسالة التحدي التي تبعث بها وتؤكد بها رفضها الاستسلام والهزيمة، فإنها تسبب إزعاجا لإسرائيل لا يمكن تجاهله. يكفي أنها تضطر آلاف الإسرائيليين إلى الهرولة إلى المخابئ. كما أنها تثبت فشل قادة الدولة العبرية في إسكات صوت المقاومة وإشاعة الطمأنينة بين مواطنيها.
في الوقت ذاته فإنها تكبد الإسرائيليين خسائر مالية كبيرة، لأنها اضطرتها إلى الاستعانة بنظام القبة الحديدية الذي يحاول اعتراض الصواريخ القادمة من الجانب الفلسطيني، وهذه عملية تتكلف ملايين الدولارات. وفي كل الأحوال ينبغي ألا ينسى أن المقاومة الإسلامية في غزة أثبتت أن لديها صواريخ تحمل اسم «فجر خمسة» قادرة على الوصول إلى تل أبيب، وقد أطلقت اثنان منها على ضواحي المدينة ردا على العدوان الإسرائيلي الذي وقع في شهر نوفمبر عام 2012. وهو ما أفزع الإسرائيليين، ودعاهم إلى الإسراع بوقف القتال حينذاك.
أخيرا، إذا كنت قد لاحظت أنني لم أشر إلى رد الفعل العربي على الغارات الإسرائيلية، فأرجو ألا تظن أنني سهوت عن ذلك، لأنني وجدته من الضعف بحيث لا يستحق أن يذكر. من ثَمَّ فلك أن تعتبر أن عدم ذكري له كان خجلا منه وليس سهوا عنه.