عشية السنة الرابعة للصراع في سورية يستعصي على كثيرين استيعاب هذا الكمّ من العوامل الدولية التي لعبت ضد الشعب السوري وقضيته، فلا يجدون تفسيراً سوى «الصـدفة المعـاكسـة» أو «الـحظ الـعاثر». عندما استفاق هذا الشعب لم يجد سوى روحه على كفّه يقدمها ليتخلّص من الاستبداد، وإذ لم تكفِ التضحية لم يعثر على من يساعده بحقّ، لا في قمة العالم ولا في قاعه. وعندما استفاق العالم على هول المأساة وتعرّف الى تعقيدات الأزمة، لم يستطع بدوره العثور على «عقلاء» ولا على «وطنيين» بالحدّ الأدنى في النظام، كان هناك متـعطـشون لـلدم مـهووسون بـجرائـمهم ومـزهوون بـإذلال مواطنـيهم.
في القمة وجد الرئيـس الروسي في سورية الضالة التي يبحث عنها ليبني مجده الخاص ويستعيد الأمجاد الإمبراطورية والســوفياتيـة فـي آن، ورأى ملالي قم وطهران أن خوض معركة نفوذهم في سورية، مهما بلغ الثمن والخراب، يبقى أجدى من خوضها على أرض ايران. أما الرئيس الاميركي، الخطيب المفوّه عن الحرّيات والديموقراطية في العالم العربي، فاستحال بطّةً عرجاء عاجزة حين دُعي الى اتخاذ قرار من أجل شعب سورية. أدّى صراع الدولتين الى تعطيل مجلس وإقفاله: لا حماية للمدنيين، لا مناطق حظر للطيران، لا محاسبة على جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، ولا عقوبات على قصف المدنيين بالسلاح الكيماوي والصواريخ والبراميل المتفجّرة… كل ما استطاعه المجتمع الدولي ذاك القرار غير الملزم لتسهيل وصول المساعدات الانسانية، قرار أشبه بحبّة مسكّنة لمصاب بمرض عضال كي يتحمّل آلامه في انتظار العائدين من اوكرانيا وأزمتها، فتلك أزمة اخرى مشابهة بتعقيداتها بل أكثر أهمية بحكم موقعها وقد تفجّرت في لحظة سورية حرجة لتراكم مزيداً من «الحظ العاثر».
عشية السنة الرابعة لم ينكشف وهم «التفاهم» بين الولايات المتحدة وروسيا فحسب، بل تلبّدت الأجواء الدولية مجدداً بـ «الحرب الباردة» وأشباحها. وتزامن سقوط خيار «الحل السياسي» لسورية مع اقتراب انهيار الحكم الموالي لروسيا في كييف مع ترحيب النظام السوري بـ «الهدايا» التي لا يتوقعها لكنها تأتيه تلقائياً ليتخلص من «جنيف 2» ومفاوضاته ويعود الى التركيز على استراتيجية استكمال سيطرة مستعادة، حتى أنه يبني على استقالة الوسيط الدولي الثاني ليحدد خيارات كانت متاحة له دائماً لكنه أخفق في تحقيقها، ولا يعبأ بمن يكون الوسيط التالي بل يعده بمصير مماثل، فأي وسيط لا يستطيع شيئاً من دون توافق اميركي – روسي لم يعد متاحاً الى حين.
بين الأطراف المفترض أنها معنية بالأزمة، سورياً وإقليمياً ودولياً، ينفرد نظام بشار الاسد وحليفاه الروسي والايراني بامتلاكهم استراتيجية شريرة غليظة الوسائل لكن واضحة الأهداف، إذ تطمح الى الشيء نفسه الذي شكّل القطيعة بين النظام والشعب. استراتيجية ضد منطق التاريخ لكنها تستغلّ ثغرات الوضع الدولي شاهرةً أكذب الشعارات متخففة من أبسط المبادئ مثقلة ببراميل الحقد الأسود. فروسيا تقدّم نفسها رائدةً للحل السياسي فيما تواصل شحن الأسلحة الى النظام، حتى أنها استطاعت «إقناع» اميركا التي صدّقت لأن لا خيارات اخرى لديها. وإيران تتولّى ادارة العمليـات العـسكرية حالياً وتعزز الوضع الميداني للنظام معتبرةً أن أي حل لا بدّ من أن يخضع لاحقاً لموازين القوى. أما النظام فيمضي في جني ثمار الحصارات والتجويع بهدنات مذلّة ومحدودة، لكنه يفشل في استعادة ثقة المناطق المهادنة، لذا يعود الى خرق الهدنات تلبيةً لنزوات «الشبّيحة». لكن هناك الأهمّ في هذه الاستراتيجية، وهو الاستعدادات الجارية لإجراء الانتخابات الرئاسية الأسوأ في تاريخ الاجـتماع البـشـري. فعدا فوز معلن مسبقاً للمرشح قبل إجراء الانتـخابات أو من دونه، بل عدا احتقاره المثبت والمـوثّق لشـعبه، فإنه سيُنصّب علناً فوق جـثث وجروح وآلام نحو مليون سوري قتلوا أو قضوا تحت التعذيب أو أصيبوا أو فقدوا أو لا يزالون رهائن محتجزين في السـجون، إضافة الى عشرة ملايين سوري مهجّر أو نازح وليس بين همومه الأولى أن يعيدهم الى بيوتهم وديارهـم كما يُتوقّع من أي «رئيس» وحاكم «منتخب».
أما بالنسبة الى المعارضة، وباستثناء ما أظهرته من قدرة على التشرذم وتفتيت الذات وما أنجزه النظام من اختراقات في صفوفها عبر تنظيم «داعش» وبعض العسكريين ورجال الأعمال المزدوجي الأدوار، فإن سياسييها وعسكرييها لم يتوصّلوا الى بناء استراتيجية على مستوى الطموح. استطاع سياسيو المعارضة خلال مفاوضات جنيف أن يُظهروا جدّية وجاهزية لتحمّل المسؤولية عندما يُمنحون الفرصة، على رغم الانقسامات والتشويشات التي سبقت هذه الاطلالة الدولية المهمة، وعلى رغم ابتلاء المعارضة بـ «أطراف داعمة» أكثر تناحراً وتشرذماً في ما بينها ولا استراتيجية لها هي الاخرى. أما اجتماع العسكريين الذي تحوّل الى «حفلة ملاكمة»، فلم يكن مسيئاً ومخجلاً فحسب بل كان نذيراً باستحالة الرهان على «جيش حر» موحد القيادة والأركان والطاقات والسلاح، كما لو أن تلاعب الدول «الداعمة/ غير الداعمة» بتسليح هذا الجيش وتمويله أجهز على احتمالات اعادة تنظيمه وتماسكه.
هذه الحال المراوحة بين «الأفغنة» و «الصوملة» هي التي اعتبر محللون، أمام لجنة السياسة الخارجية في مجلس الشيوخ الاميركي، أنها قد تطيل الصراع في سورية الى عشر سنوات مقبلة وأكثر، استناداً الى أن أي طرف لن يستطيع أن يحسم. قبل ذلك كانت «مراجعة الخيارات» التي طلبها باراك اوباما من خبراء الادارة قد انتهت الى أن كل الاستراتيجيات التي سبق رفضها تبقى مرفوضة وأهمها التدخل العسكري المباشر وغير المباشر. اذاً، فلا استراتيجية للولايات المتحدة وإنما رغبة في تخفيف المعاناة الانسانية واستعداد مبهم لرفع الفيتو عن التسليح النوعي على نطاق ضيق ولمجموعات «معتدلة» معروفة. كان «الجيش الحر» يعتبر «نموذج اعتدال» مع رئيس أركانه السابق الذي أطاحته «الجبهة الاسلامية» فاضطر زملاؤه الى اقالته، وليس واضحاً بعد اذا كان الاميركيون مستعدين للتعامل مع هذا التغيير الذي بدا موضوعياً وضرورياً. قبل «جنيف 2»، تشدّدت واشنطن مع جميع الحلفاء في منع التسليح وتقنين التمويل، بل كانت واضحة في أنها لا تريد تغييراً في الوضع الميداني وكأنها كانت متيقنة بأن الحل السياسي وشيك على رغم علمها بالتقدّم الذي كان يحرزه النظام بواسطة حلفائه. لذلك، فإن سماحها الآن بالتسليح يأتي متأخراً كما كل قراراتها في شأن سورية.
لا شك في أن المؤشرات الحالية تنبئ بأن الصراع سيطول، فلا جدوى من المراهنة على ارادة دولية لإنهائه مثلما لم يكن هناك مجال للتعويل على ارادة سياسية داخل النظام. وقبل تكهن خبراء واشنطن بـ «عشر سنوات وأكثر» كانت أوساط المعارضة باشرت التفكير في هذا الاتجاه،، قبل «جنيف 2» وبعده، دائمة الإلحاح على التسليح والوفاء بوعود التدريب. لكن الدول «الداعمة/ غير الداعمة» تبدو مدعوة الى مهمتين عاجلتين: الأولى إحكام التنسيق في ما بينهما بالنسبة الى الدعم المالي والعسكري للمعارضة، والثانية الإقرار بأخطاء المرحلة السابقة ووضع استراتيجية لما بعد سقوط خياري الحل السياسي والضربات الصاروخية. فالنظام استطاع أن يفرض استراتيجيته التي ليحكم حيث يسيطر حتى على مدن خالية من السكان، وطالما أنه لا يزال موجوداً في معظم المناطق، فإنه يستبعد «الأفغنة» أو «الصوملة»، وكلما تقدّم ازدادت الصعوبات التي ستواجهها دول الجوار سواء مع النازحين أو مع المعارضة المسلحة بمختلف ألوانها معتدلةً ومتطرفةً.
* كاتب وصحافي لبناني