نجح مجلس التعاون لدول الخليج العربية على مدى أكثر من ثلاثة عقود في تجاوز كثير من المطبات، من بينها حربان في منطقة الخليج، كانت واحدةٌ من دول المجلس -هي الكويت- طرفاً في إحداهما كونها كانت هدفاً للغزو العراقي، فيما اشتعلت الثانية بين العراق وإيران، على ضفاف المجلس وهو في مطلع عمره.
ونجح مجلس التعاون كذلك في المحافظة على مستوى لا بأس به من التنسيق بين دوله الست، سواء من خلال القمم السنوية بين قادته أو من خلال اجتماعات المتابعة بين الوزراء المختصين، إلى حد أنه صار يعتبر قدوة في العمل العربي المشترك، تحسده عليها تجمعات أخرى عجزت عن المحافظة على المستوى نفسه من التنسيق، كما حصل مثلاً للاتحاد المغاربي.
من هنا، لا يبالغ المراقبون عندما يعتبرون أن الازمة الحالية داخل المجلس أزمة استثنائية لا سابقة لها. لكن هذه الأزمة ليست وليدة ساعة غضب، ولا هي من دون مقدمات أو أسباب، وهو ما يفترض القول إنه كان يمكن تجنبها لو توافرت الظروف والقنوات المناسبة لذلك.
تعود الأزمة الحالية بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وقطر من الجهة الأخرى إلى أسباب تتعلق بالخلاف حول السياسة الخارجية لهذه الدول. هذا الخلاف ظهر بأوضح صوره من خلال تباين المواقف حيال الوضع القائم في مصر بعد 3 تموز (يوليو) الماضي، بعد أن اتخذ كل من الطرفين موقفاً مختلفاً من إبعاد الرئيس السابق محمد مرسي عن الرئاسة في أعقاب التظاهرات الشعبية ضد استمراره في الحكم.
لم يكن الخلاف السياسي هذا أمراً مستغرباً أو مفاجئاً، ولا كانت سياسات حكومة الدوحة حيال العديد من القضايا العربية جديدة في اختلافها مع تيار عريض من الرأي العام في منطقة الخليج. كانت توصف هذه السياسات بأنها سياسات مشاغبة في منطقة يتميز العمل السياسي فيها بابتعاده عن أسلوب المشاحنات، وبحرصه على تسوية الخلافات بالطرق التي لا تزيد من صب الزيت على النار. وجاء الدور الذي لعبته قناة «الجزيرة»، تحت وهم أنها تعمل على تطوير وسائل الإعلام العربي، ليزيد من انفضاح هذا الدور المشاغب، وليؤكد ازدواجية خطاب الدوحة، إذ كانت «الجزيرة» تفتح عيونها وكاميراتها على كل شأن من شؤون منطقة الخليج، باستثناء الشأن القطَري.
تستطيع دول المجلس تجاوز الأزمة الحالية على رغم عمقها، وعلى رغم الطابع الاستثنائي للإجراءات التي اتخذت، والتي وصلت حد استدعاء السفراء. ولكي تنجح دول المجلس في ذلك لا بد لها من النظر بواقعية إلى الأسباب التي أدت إلى الأزمة الأخيرة. وأهم هذه الأسباب هو غياب المؤسسات التي تستطيع القيام بدور تنسيقي لرسم السياسة الخارجية لدول المجلس وتوحيد هذه السياسة بما يخدم مصلحة شعوبه.
والحل بالتالي لا بد أن يكون من خلال الوصول إلى صيغة تسمح لدول المجلس بالتنسيق في ما بينها بهدف رسم سياسة خارجية مشتركة حيال القضايا التي تهم منطقة الخليج.
من هذا المنطلق، لا يفيد كثيراً دفاع قطر عن تفرّدها بالقول إن الاعتراض على مواقفها لا يتعلق بقضايا خليجية، ذلك أن السياسات القطَرية تنعكس على العمل الخليجي المشترك وتحدّ من فعاليته، خصوصاً عندما يعمل كل بلد على حماية مصالحه الخاصة، ولو كان ذلك على حساب مصالح الدول الأخرى، بما فيها المصالح الأمنية المباشرة.
مجلس التعاون أمام مفترق طرق حقيقي. لقد أظهرت هذه الأزمة أهمية زيادة التنسيق بين الدول الست. من هنا لا بد من النظر بجدية في المشروع المطروح على المجلس للانتقال إلى مرحلة الاتحاد الذي يضمن فرصة أكبر لتوحيد المواقف. في هذا، ربما كان الاتحاد الأوروبي نموذجاً صالحاً، إذ على رغم الخلافات القومية واللغوية والتاريخية بين دوله (وهي خلافات غير قائمة بين دول الخليج)، فقد نجح في رسم سياسة خارجية مشتركة جعلت موقعه على الخريطة الدولية أكثر قوة، وسمحت لدول تحرص على استقلال سياساتها، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، أن تنسق مع بريطانيا المعروفة تقليدياً بميلها إلى مسايرة المصالح الأميركية.
أما إذا لم يتجه مجلس التعاون إلى خطوة كهذه، فليس ما يمنع أن تكون الأزمة القائمة حالياً بين قطر ونصف أعضاء المجلس مقدمة لأزمات أخرى أكثر عمقاً، يمكن أن تهدد بقاء المجلس على الأسس التي نشأ عليها