في احدى المدن،.. حيث الورود تأتلق بألوانها وأشكالهاعلى جوانب الطريق ترسل شذاها مع نسيم الصباح، لتهدي المارة عبق الحياة، ورحيق الخلود.. كنت بانتظار التاكسي.. وكانت تلك الطفلة الصغيرة اكثر المفتونين بلون الورد وعطره الفواح، لدرجة أنها اقتربت منه، ولامست بيدها رؤوس الورود، لم تستطع_بحكم طفولتها_ ان تقاوم فتنة الألوان الزاهية، والروائح الزكية..أحكمت قبضتها على عنق الوردة وقطفتها..نعم لقد قطفتها..
تقدم والدها بلهفة، وكأنه يخشى أشواك الورد على نعومة يديها، حسبته سيربت على كتفها، ويقبل خدها الصغير، ويقطف لها وردة من لون آخر.. وهنا كانت المفاجأة.. لقد كان الوالد مفجوعا على تلك الوردة التي انتزعت من بستانها بغير حق.. وكأن ابنته ارتكبت حماقة بحق هذه الوردة.. سمعتُه يخاطب ابنته بلهجة حانية لكنها حازمة..
ماالذي فعلتيه يا بنية؟ لقد أسأتِ الى الوردة التي كانت تعيش مع أخواتها، كيف تجرأتِ على ذلك..؟ أيرضيكِ أن ينتزعكِ أحد من أحضان أمك وأبيك؟..لو تركتِ هذه الوردة المسكينة بين أخواتها لكانت سعيدة..لكنها الآن حزينة.. لامست هذه الكلمات شغاف قلبها الذي لامسه عشق الورود فانهمرت بالبكاء وتوالت كلمات الاعتذار ممزوجة بدموع الحزن ورائحة الياسمين..
ادهشني الموقف..واستدعى في خاطري الكثير من الأسئلة عن احترامنا للحياة، واحترامنا للبيئة واحترامنا لقيمة الجمال في الحياة..وتذكرت قول الله تعالى(هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان)
إنها مجرد وردة..لكنها تخدم قيمة الجمال..والذوق الراقي، وتبثُّ فينا حب الحياة والتفاؤل..لقد أحسنت الوردة إلينا حين تألقت بجمالها تدعونا للتفاؤل وتنثر عبيرها فينا أملا متجددا وحبا دافقا..وحين نربّي أبناءنا على احترامها فإننا نربيهم على احترام هذه المعاني جميعا..فإن من يخشى اقتطاف وردة يعجز عن ايذاء قطة..ومن يحترم حياة قطة لا شك أنه سيحترم حياة أخيه الإنسان على وجه هذه البسيطة.
..تجتهد المؤسسات في انشاء الحدائق العامة وتتكلف في تجميلها وتزيينها أملا أن يحافظ الناس عليها بما أنها تخدمهم..ولكن مع مرور الأيام تصبح تلك الحدائق نهبا للعابثين والمستهترين..وتخبو بهجة الجمال منها،
ما الذي يجعل بعض الأفراد في مجتمعنا يفرحون بالعبث والتخريب ؟
إن نظرة واحدة الى مقاعد الطلاب في المدارس، والجامعات، تكفي لإنشاء قاعدة بيانات كبيرة في علم النفس عن ما يعيشه هؤلاء الطلاب من حالات نفسية مختلفة، ،تلك الفطرة النقية أمانة بين أيديناوهذه الغراس الصغيرة تنبت بما نسقيها من عواطف وقيم واتجاهات،ونحن مسؤولون عنهم أمام الله تعالى:(وقفوهم إنهم مسؤولون)
ان علماء النفس متفقون أن الوالدين هما مصدر هذه العواطف وأن الاسرة هي المسؤولة عن تلك الأمانة:أمانةالفطرة النقية، والبراءة الانسانية، ..فالعواطف الأولى هي التي تبني شخصية الطفل وتجعل منه شخصية متوازنة..ولو اختلت تلك العواطفبالزيادة أو النقصان فإنها تجعل منه لا يحترم الانسانية.وها هو التاريخ يحدثنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل رجلا على عمل فرأى الرجلُ عمَر يقبِّل أحد أولاده..فقال الرجل : تقبِّله وأنت أميرُ المؤمنين؟ لو كنت أنا ما فعلته، قال عمر: فما ذنبي ان كان نُزع من قلبك الرحمة؟ ونزعه من عمله قائلا: انت لا ترحم ولدك، فكيف ترحم الناس.؟
انها وصية من الله عز وجل للآباء والأمهات ان يغمروا ابناءهم بالعطف، وان يعاملوهم بالرفق لقوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم) وأن يزرعوا فيهم احترام الحياة والأحياء وقيمة الجمال(ان الله جميل يحب الجمال) فالطفل يولد بفطرته الأولى جوهرة مطهرة يحمل بين ضلوعه نقاء ماء السماء، وقداسة طهر الملاك، يحمل قلبا ناصعا نخط على صفحته ما نشاء من القيم والأخلاق..هو أشبه بتلك الوردة في بستان الحياة..نسقيها ونهذبها ونحرص عليها لتهب الوجود عطر الخلود.