هل من المناسب اليوم أن نتحدث عن رؤية خليجية مشتركة لإعادة روح «الفريج»، وبالتالي السعادة والأصالة للمدينة الخليجية بعدما دهمتها العصرنة، فتفرق أبناؤها واختلت تركيبتها السكانية؟ نعم، فهذا أفضل من الحديث حول خلافات صنعت خارج الخليج من غير خليجيين، وانتهت بتقسيم الخليجيين.
كل دول الخليج ومدنها، مرّت بفضل النفط ونعمته ونقمته، بتغيرات جذرية. التحول من «الديرة» إلى المدينة الهائلة المترامية الأطراف، ولا تزال التحولات مستمرة، فما من مدينة خليجية إلا و «الكرينات» الهائلة تلوح من بعد في سمائها، وكلها تريد التسابق في العمران. أمامهم نموذج دبي، والجميع يريد أن يكون دبي.
ولكن، لا يمكن أن تكون في الخليج إلا دبي واحدة، مثلما أنه ليس في الساحل الشرقي من الولايات المتحدة غير منهاتن واحدة تخدم كل أميركا. هنيئاً لهم في دبي ذلك النجاح، ولنعتبر أن نجاحهم نجاحنا، ولنقل لكل من يحاول أن يبني دبي أخرى في خليجنا الصغير «سبقك بها عكاشة»، وحديثي هنا ليس سياسياً، إنما هو اقتصادي.
وبينما يشكو البعض من تعثر مجلس التعاون الخليجي، والوحدة غير المكتملة، لا ينتبه إلى أن مقداراً هائلاً من الوحدة تحقق ونعيشه، هو الوحدة الجمركية، وحرية التنقل، وتوحيد جملة من الأنظمة والتشريعات الاقتصادية التي خلقت بيئة عمل خليجية اقتصادية واحدة لقطاع الأعمال.
كان من الأفضل لو نسّقت دول مجلس التعاون في نهضتها بعيد تأسيس المجلس، ولكن هذا لم يحصل، لأن هذا من طبيعة «الرأسمالية» الحرة، ولأننا لا نزال حكومات مستقلة «ونختلف أحياناً وبشدة»، ولكن حان الوقت لأن يعلي الجميع مسائل البيئة وسعادة المواطن، وقد يكون الأفضل أن تكون هذه حركة شعبية ينادي بها المثقفون والكُتاب والمهتمون بالشأن العام. إنها مسألة غير سياسية، يجب أن يطرح أحدهم السؤال: إلى متى تستمر مدننا في التوسع ومطاراتنا في استقبال آلاف من العمالة الوافدة؟
حان الوقت لأن نطالب بالحق في «الحياة السعيدة» واستعادة روح «الفريج» بالخليجي، و «الحارة» بالسعودي، وذلك بإعادة تخطيط مدننا واقتصادنا. نبدأ بوقف التوسّع المبالغ فيه في مدننا، فمدينة مثل الرياض تضاعفت مساحتها مرات عدة خلال عقدين فقط من الزمن ولا تزال تتسع. ليتوقف ذلك، بعده نبدأ في العودة إلى وسط المدينة، حيث الخدمات والجيرة الطيبة. سيتساءل أحدهم: ماذا سيحصل لأحياء الأطراف والمخططات الجديدة؟ لنترك الاقتصاد والعرض والطلب تتحكم في أمرها وتحدد مصيرها. تقلّص المدن سيحصل بتعمير أراضيها البيضاء داخلها حباً أو كرهاً، التي تشكل نصف الرياض وأقل من ذلك بقليل في جدة وفق الإحصاءات الرسمية، فالأصل أنه لا يجوز احتكار الأرض، ولكننا نحتاج مفتياً يقول بذلك، ورجل دولة يفرض نظاماً ورسوماً، ثم نعيد تخطيط المدن. نقضي على سرطان المحال التجارية الذي انتشر في شرايينها، لنعيد الاعتبار لمادة «تخطيط المدن 101» التي درسها في جامعات أميركية المهندسون الذين أصبحوا رؤساء بلديات، ثم نسوها بسرعة فور حصولهم على وظيفة رئيس بلدية، أو الاسم المطور الذي اخترناه لهم «معالي الأمين»، وكل ما ذكرت موجود في كل مدن الخليج، باستثناء عُمان التي لا تزال مدنها تتسع بمقدار مع المحافظة على الهوية المحلية.
في البحرين حيث استقررت فيها أوائل 2013 بحكم عملي مديراً لقناة «العرب» الإخبارية، عادة جيدة، هي المجالس الرمضانية، فلكل عائلة مجلس كبير تستقبل فيه ضيوفها في ليالٍ محددة طوال الشهر الكريم، فيمضون وقتهم بعد صلاة التراويح، إما في المجلس أو يزورون مجلس غيرهم.
في مجلس رمضاني هناك، سمعت حديثاً بين رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان ومواطن بحريني عن «أيام زمان» في أحياء البحرين القديمة. كان الحوار حول من بقي في «فريج العمامرة» الذي نشأ فيه محاور رئيس الوزراء، ومن انتقل، وما حصل في تلك الأيام. كان في الحديث مقدار هائل من الاشتياق الرومانسي لتلك الأيام والأماكن القديمة، وهي حال أراها تتكرر حيثما جلست مع رجالات ذلك الزمن القديم في المملكة أو الكويت، فلماذا هذا الاشتياق لتلك الأحياء القديمة ونحن من ضقنا بها وتخلينا عنها؟ ضقنا من أزقتها الضيقة، وأسقفها العالية، وأبوابها الخشبية، بعدما صدقنا أن الحداثة والتطور يكمنان في المباني الإسمنتية الحديثة، وفي الأحياء ذات الطرق الفسيحة، من دون شجر أو ظل، معاندين بذلك طبيعة بلادنا الحارّة. هجرنا مدننا القديمة حيث مبانيها تحن لبعضها بعضاً فتنشر ظلالاً في الطرقات، ونسمات باردة تنعش النفس، وسدرة خضراء شامخة وسط الحي يجلس تحتها بائع الثلج والمرطبات، بل إننا في بعض مدننا السعودية، أزلناها من دون رحمة أو اعتبار لتاريخ أو ذكرى جميلة، وما بقي تركناه لعمالة وافدة لا تعرف أيام عزها وابتسامتها.
حوار رئيس الوزراء البحريني والمواطن فيه الجواب عن سؤال «لماذا نحنُّ إلى أحيائنا القديمة بعد أن هجرناها طوعاً؟». إنه افتقادنا علاقة جميلة لا تعوضها أجمل المباني وأوسع الطرق. إنها «الجيرة» أن تخرج من بيتك نحو المسجد أو السوق، تلتقي بجارك الذي تعرفه وتعرف والده وعشيرته. هذه المشاعر وأشخاصها كانوا محور حديث رئيس الوزراء والمواطن. إنه ليس حب «الفريج»، إنما حب من سكن «الفريج».
نحن في المدينة المنورة ومكة المكرمة لم تبقَ لنا أحياء قديمة، زحفت عليها عمارة الحرمين فانتشرنا في أطراف المدينتين المقدستين في أحياء لا تمت للقديم بصلة، شيء مشوّه اسمه مسكن يصله ماء وكهرباء. أهالي العاصمة وبقية المدن تركوا أحياءها القديمة بأيديهم لا بيد عمرو، بل إنهم عاشوا هجرة متتالية، كانت هجرتهم الأولى خارج السور نحو أحياء جديدة بنيت في الستينات، ثم تركوها نحو أحياء أحدث، والآن يتركونها نحو أحياء أحدث وأبعد من المدينة القديمة وروحها، وكلما نزحوا من حي حلّت محلهم عمالة وافدة غريبة عليه، فيفقد شخصيته وتاريخه، وتضيع بينهم ذكريات الحب والموت والحياة.
حتى الآن، نجت البحرين من هذا «التطور» الكاسح، فلا يزال كثير من عائلاتها يسكن في أحياء الستينات والسبعينات، وقليل منهم لا يزال يسكن في أحيائها الأقدم مثل المحرق، وأحسنت بلديتها صنعاً بمحاولة إحيائها من جديد بتطويرها وتجميلها لجذب المطاعم والمقاهي إليها، ناهيك عما تفعله وزيرة ثقافة البحرين الشيخة مي الخليفة بتحويل مبانيها التاريخية إلى معالم حضارية، لعلها تنقذها من احتلال العمالة الوافدة أو لتصبح مخزن بضائع.
لقد حان الوقت لندعو رؤساء البلديات، خصوصاً أولئك الذين درسوا تخطيط المدن والتطوير الحضري في جامعات أميركية لفتح كتبهم التي علاها الغبار، والتخطيط لإعادة المواطنين إلى أحيائهم القديمة وليست بقديمة، بتحسين الخدمات فيها وفرض قواعد التخطيط السليم (الذي درسوه في أميركا)، والذي يحدد المناطق التجارية وتلك السكنية. نريد العودة إلى «فريج العمامرة»، ولكن من دون ورشة إصلاح سيارات عن يمين منزلنا القديم، ومعمل لصنع «الطرشي البلدي» عن يساره.
* كاتب وإعلامي سعودي