الزوبعة في قاموس المعاني الجامع، تعني هيجان الرياح وتصاعدها إلى الجو. وهي ظاهرة مناخية متكررة، تعصف فيها رياح مثيرة للغبار برهة، ثم تتلاشى في السماء بسرعة. أما حين نحشر الزوبعة في فنجان، على سبيل المجاز، فنحن نكون بصدد تصغير أمر ما، من غير أن يعني ذلك التهوين من شأن صاحبه. وهو تعبير مواز للقول الشائع: “أسمع جعجعة ولا أرى طحناً”.
بهذا المعنى بدت المسرحية المكونة من مشهدين تم عرضهما الأسبوع الماضي على خشبتين منفصلتين في المكان، ومتحدتين في الزمان؛ إذ جرى تقديم المشهد الأول على مسرح الكنيست الإسرائيلي، بأداء تمثيلي هابط لجهة النص والإخراج، فيما تم عرض المشهد الثاني في بيت الأمّة الأردني، تحت الأضواء الساطعة ووسط جمهور متحمس كانت تغص به مقاعد المتفرجين وعدسات المراسلين داخل القاعة.
بالمحصلة غير النهائية، أسدل الستار على خاتمة سعيدة، تم فيها كنس زبالة فرض السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى، من فوق السجادة إلى ركن صغير تحتها، وليس إلى خارج العتبة. وفي المقابل، جرى تنفيس بالون الاختبار هنا بمهارة، وخرجت سحابة الهواء الفاسد من النوافذ المفتوحة، من دون أن تتبدد رائحتها الكريهة من المكان تماماً.
بكلام آخر، فقد ربحنا جولة من الحرب المفتوحة على المسجد الأقصى، وفزنا هذه المرة بالإبل، وأشبعناهم شتماً في الوقت ذاته. غير أن النجاح في هذه الجولة يجب ألا يسمح لأحد بأخذ استراحة المحارب، والنوم على حرير مكسب مؤقت، قد يضيع من بين اليدين في أي وقت يختاره قطاع الطرق أنفسهم، الكامنون لنا على المنعرج بعد، ليودوا بالإبل من جديد.
صحيح أن يمين اليمين الإسرائيلي المتطرف قد خرج من هذه المعركة السريعة صفر اليدين، بعد أن شنها من دون إعداد مسبق ومن غير عدة كافية؛ إلا أنه سجل نقطة ثمينة مع الأسف، ووضع الأساس لسابقة قابلة للتكرار في ظروف أكثر مواتاة، في غد قد لا يكون بعيداً، إذا ما امتلك النصاب الكافي لتمرير قراره المعلق على تحقق شروط أخرى، لعل في مقدمتها حدوث خلل أشد في التوازنات المختلة سلفاً.
ولا أحسب أن القعقعة بالشنان هنا في عمان، أو “دَبّ الصوت” هناك في رام الله، كافيان وحدهما لمنع حدوث زوبعة أخرى مماثلة في الكنيست، وتحولها إلى إعصار هائج قادر على اقتلاع مصدات الريح الهشة، واكتساح السواتر الخشبية المقامة على أرض رملية رخوة، وذلك إذا قرر المهووسون بمبدأ القوة المجردة استكمال تهويد القدس، التي يبدو فيها “الأقصى” كوتد أخير يحول دون نزع آخر المعالم الحضارية العربية الإسلامية عن المدينة.
ولعل استمرار الاقتحامات اليومية لساحات المسجد الأقصى، من جانب مستوطنين ونواب وقوات أمن مدججة، وما يرافق ذلك من حظر وفرض قيود مشددة على المصلين، ويتخللها من إرساء مزيد من حقائق الأمر الواقع في صحن ثالث الحرمين الشريفين، تشير في مجموعها إلى أن ساعة الاحتلال ماضية نحو تعانق العقربان في لحظة سياسية مواتية، عند منتصف ليلة حالكة.
ذلك أن الزمن الذي يعمل كحد السيف ضد من لا يحسن توظيفه، ما يزال على حاله؛ يؤدي وظيفته بكل حيدة، ويملي على “الأقصى” والقدس وفلسطين والعرب والمسلمين جميعاً، منطقه الغاشم بلا تلكؤ. الأمر الذي يجدر معه إيلاء عامل الزمن هذا ما يستحقه من اهتمام، واستثماره خارج إطار المبالغات الخطابية والشعارات التي لا تسمن، من خلال مبادرات هجومية استباقية.
ينبغي التذكير ختاماً، بحقيقة أن إسرائيل التي تسابق نفسها بنفسها لأسرلة القدس وتهويد “الأقصى”، لا تعتمد في سبيلها إلى ذلك على تفوقها العسكري الكاسح فقط، وإنما على عامل الزمن أيضاً؛ إذ يراكم المحتلون مع الوقت إقامة مزيد من الحقائق، ويملون على الجميع منطق الأمر الواقع، فيما نحن نكاد لا نلتفت إلى هذا العنصر، وننحو منحنى تقديس بقاء الوضع القائم على حاله، وننتفض انتفاضة العاجز ضد أي مبادرة سياسية توقف دوران عجلة الزمن غير المواتي، وتمنع أي زوبعة من التحول إلى إعصار عاتٍ.
عيسى الشعيبي/زوبعة تنذر بإعصار
16
المقالة السابقة