تكاد لا تمر بضعة أشهر، حتى تثور عاصفة سياسية محلية تتناول صفقات في العقارات أو الأسهم أو الأموال، يشوبها الغموض أو الخلل القانوني أو الإداري ،وتبتعد عن النزاهة إلى درجة أن تصبح مشبوهة في نظر المجتمع. ويأتي في مقدمة هذه الصفقات بيع المرافق العامة و اراضي الدولة، أو التنازل عنها أو الاستيلاء عليها أو شراؤها بأسعار بخسة أو بشروط مجحفة. ومثل هذا الأمر لا ينبغي أن يستمر على هذا المنوال . إذ أنه سنة بعد سنة سيكتشف المواطنون انه لم يبق من المرافق شيئا و من أراضي الدولة إلا المناطق البعيدة والمهجورة، أما المناطق الحيوية والصالحة الاستثمار فقد تم بيعها دون علم المواطنين، و دون مشاركة مجلس الأمة في القرار.
صحيح أن الحكومة هي صاحبة الولاية على أملاك الدولة و مرافقها، ولكن ما هي ضوابط هذه الولاية؟ وما هي المتغيرات التي تؤثر على هذه الولاية حين يتعلق الأمر بالأراضي؟ و إذا لم يكن القانون ومجلس الأمة يأتيان في مقدمة الضوابط، فما هي إذن؟
وفي أكثر من مرة طرحنا السؤال: ألا تعتبر أراضي الدولة مرافق عامة؟ أليس شاطئ البحر جزء من الثروات الطبيعية للبلاد تنطبق عليها أحكام المادة (117) من الدستور الأردني ؟. أليس البحر الميت بما فيه هو جزء من الثروات الطبيعية للبلاد؟ فكيف يكون شاطئ البحر خارج هذا المفهوم؟ هل تنفي “حالة البيع بالتجزئة” التي يتم فيها البيع صفة “المرفق العام “ أو “ الثروة الوطنية “؟.
ومن ناحية ثانية،يتساءل الكثير من المواطنين: لماذا الإصرار على الاستمرار في بيع أراضي الدولة و مرافقها و موجوداتها؟ ولماذا تغيير الملكية؟ الخبراء والمواطنون على حد سواء يرون أن عمليات البيع غير مبررة وليست ضرورية لأي استثمار. و يتساءلون و هم على حق :لماذا لا تحافظ الدولة على أراضيها و تحرص على ممتلكات الشعب و تذهب إلى تفويض الطرف المستفيد حق الانتفاع أو التأجير بدل البيع؟. وهذا التفويض أو التأجير يمكن أن يمتد لسنوات طويلة قابلة للتجديد. وهناك دول كثيرة تمنع بيع أراضي الدولة ولكنها تؤجرها. وبذلك تحافظ على الموجودات الوطنية من أن تصبح مادة يتاجر بها من يشاء. يشتريها اليوم لينشئ عليها مشروع ثم يبيعها ويبيع المشروع بعد سنوات، وقد ارتفعت قيمة الأرض أضعافا مضاعفة .
صحيح أن الأرض لن يحملها أحد ويهرب فيها كما يقول البعض للتخفيف من مسؤولية بيع أراضي الدولة، وصحيح أن الأرض باقية في مكانها وتزداد قيمتها عاما بعد عام ، ولكن البيع ليس له ما يبرره على المدى القريب والبعيد. وهو بالغ الخطورة في الظروف الحالية التي تتميز بالتقلب والغموض اقتصاديا و سياسيا، و تدفق الثروات العابرة، و تبييض الأموال، وزواج المال بالسلطة، والفساد، وضيق الأراضي التي تصلح للمشاريع، والتوسع في المباني، وتزايد السكان غير الاعتيادي. كل ذلك يجعل مسألة بيع موجودات الدولة وأراضيها موضع شك وتساؤل، و مصدرا لضرر كبير.
لقد كان تبرير البيع في كثير من الأحيان، هو الحصول على أموال للخزينة، وذلك لحل المشكلات والأزمات المالية والاقتصادية التي تواجهها البلاد سنة وراء سنة. وقد آن ألأوان أن تدرك الدولة ، و تعمل بموجب هذا الإدراك، أن الأزمة الاقتصادية هي ليست ذاتها الأزمة المالية، وان الركض وراء حل المشكلات المالية لا يعني بالضرورة حل المشكلات الاقتصادية، إلا إذا تم توظيف المال في مشاريع إنتاجية جديدة مميزة، لكي تنشئ فرص عمل جديدة، وتسد جزء من الاحتياجات السلعية وتستطيع التصدير إلى الخارج. و في جميع الأحوال تقريبا، فإن عائدات بيع الموجودات الوطنية من أراضي وسواها كان يذهب للخزينة للإنفاق المباشر وسد العجز في الخزينة . وهكذا تعود الأمور إلى المربع الأول.
المطلوب هنا أن يبادر مجلس الأمة إلى إصدار قانون واضح وصريح باعتبار الأراضي جزء من المرافق العامة والثروات الطبيعية للبلاد، لا يمكن تأجيرها أو تفويض حق المنفعة أو بيعها إلا بقانون وفق نص الدستور. كما أن المحكمة الدستورية مطالبة بالنظر في الموضوع . هل بيع الثروات الطبيعية، والأراضي منها، بالتجزئة يخرجها عن مفهوم المادة (117) من الدستور؟
وبعد فإن الكثير من الأسباب قد تغيرت وأصبحت الأموال الكبيرة المتنقلة في منطقتنا خطراً على اقتصادات الدول الصغيرة . فهل نستفيد من تجارب الدول و ننظر إلى المستقبل نظرة مختلفة ؟