محض «مصادفة» هو ما حمل النظام في سورية على الإفراج عن «أبو خالد السوري» (محمد بهايا) في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2011، ليعود الرجل ويؤسس مع آخرين تنظيم «أحرار الشام» الى أن انتهى قتيلاً قبل أيام على يد «داعش» بعد أن كلفه أيمن الظواهري التوسط بين «الدولة» و«النصرة». لم يكن النظام يعرف أن محمد بهايا هو صديق الظواهري وبن لادن وظل «أبو مصعب السوري». فقد كان يعتقد بأن أبا خالد مجرد سوري مظلوم، وأراد إنصافه سعياً إلى إبداء حسن نية في حينها تجاه السوريين الذين كانوا باشروا ثورتهم.
أهداهم النظام بهايا، لكن الرجل لم يُقدِّر كرم الرئيس السوري، وما ان أُفرج عنه حتى باشر بتأسيس «أحرار الشام».
ومحض «المصادفة» هذا كان النظام سقط به آلاف المرات، بدءاً بشاكر العبسي وصولاً إلى جميع القادة السوريين للفصائل التكفيرية التي تقاتل السوريين اليوم. ولكن لا بأس فلطيبة القلب أثمان، والنظام يدفعها اليوم، بعدما أفرج في بداية الثورة عن حوالى ألف «جهادي» كانوا يكابدون في سجونه. وها نحن نشهد اليوم في أدبيات الممانعة ضم تعبيريَ الإرهاب والتكفير إلى القاموس «الممانعجي» نفسه، فيستقر التعبيران الى جانب أشقائهما، أي الصهيونية والنيوكولونيالية الخ…، علماً أن الإرهاب في أكبر استخداماته ووفقاً للدلالات السائدة التي أعطيت له من نتاج العصف الذهني للمحافظين الجدد، وهي «آباء كل أنواع الاستعمار».
والحال أن مقتل «أبو خالد السوري» على يد ثلاثة انتحاريين من «داعش» أعاد فتح «جروح» كثيرة ليس أكثرها إيلاماً جرح النظام. فها هو أبو قتادة (عمر عثمان) ينعى أبا خالد من سجنه الأردني، ويقول إنه ما كان ليتخيل أن يُقتل الرجل على يد انتحاريين من «داعش»، وهو رفيق سلاح وحياة لقادة «الجهاد في كل العالم». كما أعاد مقتل الرجل رد الخلاف «غير الجوهري» بين «داعش» و «النصرة» إلى نقطة بداية لم تُستعَد في ظل الوقائع السورية، تتمثل في أن انشقاق «داعش» عن «القاعدة» كان بدأ في 2005 حين أعلن أبو مصعب الزرقاوي في حينه قيام «دولة العراق الإسلامية». وصحيح أن «القاعدة» آنذاك أعلنت قبولها بيعة الزرقاوي لها، لكن فتاوى كثيرة تحفظت على نشاط جماعة الزرقاوي وصدرت عن مشايخ على ضفاف «القاعدة» تنظيمياً، لكنهم في صلبها «افتائياً»، كفتوى «أبو محمد المقدسي»، بعدم جواز قتل الشيعة في غير ساحات القتال.
استعادة أصل الانشقاق في ظل مقتل «أبو خالد السوري» ضرورية لكشف مستوى العنف الذي يسود العلاقات بين المجموعات التكفيرية، ذاك أنه أكثر دموية من ذلك الذي تُمارسه هذه الجماعات في حق المدنيين والعسكريين في الدولة التي تقاتل فيها. ففي الجزائر مثلاً بلغ العنف بين «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» وبين «الجيا» ما لم يبلغه بين الجماعتين والجيش الجزائري، الى أن وصلت قيادة الأولى لحسان حطاب والثانية لعنتر الزوابري الذي يُمكن ضمه إلى منظومة الزرقاوي والبغدادي لجهة ذهابه في القتل والعنف إلى أقصاهما.
في «داعش» السورية مقاتلون أردنيون وعراقيون زرقاويو الأصول، ممن رفضوا فتاوى شيخهم المقدسي «المعتدلة» والداعية إلى «التأمل في القتل قبل الإقدام عليه»، ومن المرجح أن كثرة المقاتلين المغاربيين فيها تعود إلى ممارسات أرساها الزوابري وأسلافه في «الجيا». وفي حين لم تتمكن «النصرة» من تفادي «تطوع مجاهدين» غير سوريين بين مقاتليها، ها هي تكشف مجدداً «أمميتها التكفيرية» عبر وجوه «الجهاد العالمي» من أصل سوري. كما تبدد جهدها في التوطن مرة ثالثة مع كشفها بعض أدبياتها التي لا أثر لسورية فيها، إلا كأرض جهاد ورباط.
أما الجديد الذي كشفه مقتل «أبو خالد السوري» فيتمثل في أن ما راح يشير اليه المراقبون لجهة وجود «سلفية وطنية» بين الفصائل «الجهادية» في سورية ليس سوى وهم يُمكن أيضاً رده الى وهم أعم وأشمل كان بدأ أيام الجهاد الأفغاني. فجماعة «أحرار الشام» التي يتزعم «أبو خالد السوري» فرعها الحلبي، واحد من الفصائل السلفية التي تم تقديمها بصفتها «الوطنية»، وهي من بين الفصائل التي قاتلت «داعش». وأن يكون «أبو خالد» زعيمها في حلب فهذا يعني أن المحتوى «الوطني» لهذه السلفية ليس سوى قشرة يختبئ تحتها قادة من «الجهاد العالمي». وهذا علماً أن قتيل «داعش»، «أبو خالد»، كان باشر قناعته بأن تكون للجماعات المحلية الصدارة في الجهاد، وهو في أيام الجهاد الأفغاني رفض مع شيخه «أبو مصعب السوري» أن يكونا جزءاً من «القاعدة»، معتبِرَيْن أن البيعة يجب أن تكون للملا عمر ولـ «طالبان» كون الأول «أمير المؤمنين» والثانية ممثلة للمجتمع المحلي.
إذاً في أحسن الأحوال تطمح «السلفية الوطنية» إلى أن تأخذ سورية إلى نموذج طالباني مع أمير مؤمنين سوري. وهذا هو جوهر الخلاف مع «داعش». ذاك أن الأخيرة عراقية الأمير والإمارة. أما بلوغ عنف «داعش» مبالغ لا تُرضي «النصرة» وأخواتها السوريات، فيبقى غير جوهري، خصوصاً عندما نعلم أن الأخيرة هي مَنْ يتبنى قتل المدنيين في لبنان، وبمباركة المشايخ المتحفّظين على قتل المدنيين في سورية، وعلى رأس هؤلاء «أبو قتادة» الذي دان عنف «داعش» في سورية وبارك عنف «النصرة» في لبنان.
وبما أن الكلام يستدرج الكلام، نشير الى أن الممانعين اللبنانيين وفي سياق قرصنتهم مفهوم «المحافظين الجدد» الأثير، أي الإرهاب، استبعدوا في عملية توزيع المسؤولية عن انتاج الإرهاب النظامَ السوري، وهم لا يقيمون وزناً في «مكافحتهم الإرهابيين» الى أن أفرج النظام السوري عن ألف تكفيري هم اليوم من يساعد الأقران اللبنانيين على تفخيخ سيارات الموت المتجولة في أنحاء لبنان.