من الصعب الآن تقدير حجم الخسارة التي مني بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اوكرانيا، ومدى تأثيرها على سلوك موسكو على الساحة الدولية، وخصوصاً على علاقاتها المقبلة مع واشنطن، ومع عواصم القرار الاوروبي. وان كان الغربيون يأملون ان تدفع التطورات في اوكرانيا القيادة الروسية الى اعادة قراءة دورها وسلوكها في الازمات الدولية، ومنها بالاخص في هذه الفترة الازمتان السورية والاوكرانية.
هل سيتصرف بوتين على طريقة ليونيد بريجنيف، فيرسل دباباته الى شوارع كييف أسوة بما فعل سلفه عام 1968 ضد «ربيع براغ» الشهير؟ أم يقتدي بمثال ميخائيل غورباتشوف، فيستمع الى أصوات الناس ونداء العقل، ويمنح فرصة لاوكرانيا، التي خرجت قبل اكثر من عشرين سنة من رحم الاتحاد السوفياتي، لتقرر مصيرها، أسوة بما سُمح لجمهوريات الكتلة الشرقية السابقة أن تفعل؟
من الصعب ان ننتظر سياسة «غورباتشوفية» في ظل فلاديمير بوتين. كل الاشارات تدل الى ان الرجل يعمل على استعادة ما يعتبره دوراً روسياً ضرورياً للتوازن في العلاقات الدولية. تدعم سياسته هذه نزعة شوفينية لدى الاكثرية الروسية، يدفعها حنين الى الماضي، وشعور بالحسد من النجاحات الغربية في المجالات السياسية والاقتصادية. كما يستفيد بوتين من تخلّي ادارة الرئيس الاميركي باراك اوباما عن لعب الدور المطلوب من بلاده كقوة عظمى في مواجهة الازمات الدولية.
لا شك ان الجرح الذي اصاب قيادة الكرملين بسبب الانتفاضة التي قامت ضد حليفها يانوكوفيتش في كييف هو جرح عميق. حتى ان رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف اعتبرها «تمرداً» على السطات الشرعية، متجاهلاً ان مجلس النواب الاوكراني هو الذي اتخذ القرار بعزل يانوكوفيتش بما يشبه الاجماع، ومتجاهلاً فوق ذلك ان الجيش الاوكراني وقف الى جانب شعبه ضد رئيس أصبحت مظاهر الفساد الذي مارسه في الحكم ظاهرة لمن يريد ان يرى، بعد أن قامت السلطات الجديدة بفتح ابواب قصره الفخم، فيما الشعب يعاني من أسوأ ضائقة اقتصادية تضطره لتسول الاموال، سواء من صندوق موسكو أو من صناديق الاتحاد الاوروبي.
تعود النكسة التي مني بها بوتين في اوكرانيا، هذا البلد المقيم على ابواب الاتحاد الروسي، الى عوامل عدة، لكن أهمها هو رهان بوتين على امكان اخضاع الشعوب ورغباتها الى منطق القوة المسلحة العارية وحدها، مضافاً الى ذلك سلاح التخوين واتهامات العمالة، وهي بضاعة تعود في الواقع الى عصر الاتحاد السوفياتي الراحل، الذي كان بوتين موظفاً استخباراتياً نجيباً في صفوفه… ومن شبّ على شيء شاب عليه.
لا يشذ بوتين في سياسته حيال أوكرانيا عن سياسة الانحياز التي مارسها في مواجهة الازمة السورية. سياسة غلب عليها الوقوف الى جانب الظلم ضد الحق، والى جانب الفساد ضد الاصلاح، والى جانب القمع الذي يرتكبه الحاكم ضد الشعب الذي يطالب بالحرية وبحقه في اختيار حكّامه. ومثلما لم يتردد قادة موسكو في وصف المعارضين في اوكرانيا بأنهم «اشخاص بأقنعة سود وكلاشنيكوفات» و»حفنة من الرعاع والنازيين»، هكذا كانت الاوصاف تطلق على المعارضين السوريين، باعتبار انهم لا يتمتعون بأي قاعدة شعبية، وبأنهم متطرفون لا هدف لهم سوى الاستيلاء على السلطة، وذلك قبل ان تدخل الى التداول أوصاف «الارهابيين والتكفيريين».
هكذا عمل الرئيس الروسي وأركان حكمه على إلصاق كل أنواع التهم بالمعارضة التي تظاهرت في ميدان الاستقلال في العاصمة كييف، لمجرد ان قادتها رفعوا الصوت مطالبين بسقوط من اعتبروه رجل روسيا في بلادهم. بسبب ذلك اصبحت الصفات التي أُطلقت على هؤلاء تراوح بين «الفاشيين والنازيين وعملاء الغرب». واستغلت الدعاية الروسية لهذا الهدف العلاقات والروابط التي قامت في فترة الحرب العالمية الثانية بين بعض القيادات في غربي اوكرانيا والحزب النازي آنذاك، والتي كان الدافع الحقيقي وراءها هو العداء التاريخي الذي كان قائماً بين موسكو وقيادتها الشيوعية وبين تلك المناطق الغربية، وهو العداء الذي لا تزال آثاره واضحة في الانقسام الحاد بين غربي اوكرانيا وشرقها (الروسي) الى اليوم.