زيارة وزير الدفاع المصري السيسي برفقة وزير الخارجية المصرية إلى موسكو هي أكبر من زيارة بروتوكولية رداً على زيارة نظيريهما الروسيين للقاهرة في الـ 14 من نوفمبر الماضي، وهي أكثر من زيارة لتمتين العلاقات بين البلدين. إنها الزيارة التي تؤسس لتحالف مستقبلي متين بين البلدين، وبخاصة أن التحالف لن يكون للمرة الأولى، ففي عهد عبد الناصر بلغ هذا التحالف أوجه الذي تمثل في تزويد مصر بالأسلحة الحديثة، والمساعدة في التصنيع المصري وامدادات القمح. وبناء السد العالي، إضافة إلى مساندة مصر دوليًّا على الصعيد السياسي. صحيح ان التاريخ لا يكرر نفسه إلا مرتين إحداهما على شكل مأساة، والثانية على شكل مهزلة لكن من الصحة بمكان القول: إن التحالف المتين هو ضروري لكل طرف منهما: مصر بعد فتور العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة إثر حراكات 30 يونيو و3 يوليو، وبعد إعلان واشنطن رسميًّا أنها ستجمد جزءا من مساعدتها لمصر وذلك في العاشر من أكتوبر الماضي. مصر أيضاً وعلى ضوء نظام الحكم الجديد فيها بحاجة إلى حليف قوي يساندها على الساحة الدولية، وهي بحاجة إلى دولة عظمى تستورد منها ما تحتاجه من أسلحة وتسديد أثمانها على دفعات بالتقسيط المريح، ولن تجد أفضل من موسكو على هذا الصعيد. مصر أيضاً بحاجة إلى من يساندها اقتصاديًّا والاقتصاد الروسي في أفضل حالاته.
بالنسبة لموسكو فهي في أمّس الحاجة إلى المنطقة العربية والشرق الأوسط عموماً بعد تقليص نفوذها في المنطقة لعقود طويلة. العالم العربي وبشكل تقريبي يقع بمحاذاة روسيا والجمهوريات الآسيوية التي كانت ضمن الائتلاف السوفيتي. هي بحاجة مثلما يقال إلى المياه الدافئة، وبخاصة أنها والصين في طريقهما لتشكيل قطب عالمي آخر مقابل للولايات المتحدة. مصر الدولة المؤهلة لتكون باباً لعودة روسيا إلى المنطقة بعد أحداث وصراعات سوريا، ومصر هي بواية أيضاً لتمتين النفوذ الروسي في إفريقيا، ومصر هي المدخل إلى العالم النامي في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، ولا يمكن تجاهل الدور المصري في كتلة دول عدم الانحياز، فهي وفي عهد الرئيس عبد الناصر كانت في قيادة هذه الحركة. روسيا بحاجة إلى أن يكون لها دور فيما يدور من صراعات في المنطقة، الصراع الفلسطيني العربي ـ الإسرائيلي، الصراع في سوريا، الصراع الخفي على ضوء محاولات إيرانية وتركية لتشكيل البلدين قطبين أساسيين في المنطقة. روسيا بحاجة لنفوذ ومواجهة التواجد الأميركي في المنطقة وليس أفضل من مصر عنواناً لمثل هذا التواجد.
ووفقاً للأنباء المتواترة من زيارة الوزيرين المصريين إلى موسكو، فقد نشرت صحيفة فيدوموستي الروسية، بأن المحادثات المصرية ـ الروسية التي جرت في موسكو شهدت التوقيع بالأحرف الأولى على عقود بقيمة تتجاوز 3 مليارات دولار. ووفقاً لوكالة الأنباء الروسية فإن الرئيس بوتين يطمح إلى رفع التبادل التجاري مع مصر إلى 5 مليارات دولار. بالنسبة لمتغيرات دراماتيكية في الموقف الروسي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية فليس منتظراً ذلك، فمصر تملك اتفاقية كمب ديفيد مع إسرائيل، والسلطة الفلسطينية تخوض مفاوضات معها لما يزيد عن العشرين عاماً على اتفاقيات أوسلو الموقعة بين الطرفين. لذلك فما رشح عن المباحثات المصرية ـ الروسية الأخيرة هو دعوة الطرفين للفلسطينيين والإسرائيليين إلى إظهار حسن النوايا لمواصلة المفاوضات. ثم علينا أن لا ننسى أن اتفاقيات عديدة جرى توقيعها بين موسكو وتل أبيب، والمسؤولون الإسرائيليون يقومون بزيارات عديدة إلى العاصمة الروسية. بالنسبة لسوريا وما يجري فيها، فقد دعا الطرفان إلى تجنيب سوريا محاولات التدخل الخارجي في شؤونها. نائب وزير الدفاع الروسي سيرجي شويفو ونظيره المصري أكدا مسألة إجراء تدريبات عسكرية مشتركة، وتعزيز التعاون العسكري بين البلدين. كما أن اجتماعات لجنة التعاون الاقتصادي التجاري الروسية ـ المصرية ستستأنف اجتماعاتها نهاية الشهر المقبل (مارس) وفي ما يحصل يلحظ المراقب نوايا جدية لدى الطرفين لاستئناف التعاون بينهما في مختلف المجالات.
التعاون الروسي ـ المصري يعود إلى الخميسينات ( بالطبع إبّان الحقبة السوفياتية). لقد ساهمت روسيا في كسر الحصار عن تسليح مصر الذي طبقته الولايات المتحدة وعموم الدول الغربية، فكانت صفقة الأسلحة المصرية ـ التشيكوسلوفاكية، التي قامت الأخيرة إثرها بتصدير الأسلحة الحديثة إلى مصر (وفقاً لمدى تقدمها في تلك المرحلة). التأييد الروسي (السوفياتي) لمصر في العدوان الثلاثي عليها (العدوان البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي) في عام 1956 بعد تأميم عبد الناصر لشركة قناة السويس كان كبيراً، ولعبت موسكو أثناءها دوراً كبيراً في إجبار قوى العدوان على الانكفاء من مصر. ثم جاءت (مثلما قلنا سابقاً) المساعدات من أجل زيادة التصنيع في مصر، إضافة إلى المساعدات الاقتصادية والصفقات التسليحية في مواجهة إسرائيل. وتصدير القمح إلى مصر. وبلغت ذروتها في المساعدات السوفياتية لمصر في تمويل وبناء السد العالي. وتعويض مصر عن الأسلحة التي فقدتها في العدوان الصهيوني على ثلاث دول عربية في عام 1967. إضافة إلى صفقة الصواريخ التي أبرمها الرئيس عبد الناصر مع موسكو أثناء زياراته لها، والتي عمليًّا لعبت دوراً أساسيًّا في حرب الاستنزاف التي خاضتها مصر ضد الكيان الصهيوني.
في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، ومع جود الخبراء العسكريين الروس لتدريب القوات المصرية، لعبت الأسلحة السوفياتية الحديثة دوراً أساسيًّا في النحاجات العسكرية المصرية والسورية في حرب عام 1973، والتي أرادها الرئيس السادات حرباً تحريكية لا حرباً تحريرية. ثم قيامه بطرد الخبراء العسكريين السوفييت من مصر بعد أن أرسى علاقات تحالفية مع واشنطن. بالمعنى الفعلي: الجانب المصري إبّان عهد الرئيس السادات هو الذي قام بقطع العلاقة مع الاتحاد السوفياتي. بعدها توفقت هذه العلاقات في عهدي السادات ومبارك، إلى أن انهار الاتحاد السوفياتي وورثته روسيا. في عهد الرئيس مرسي لم يحصل تطور في العلاقات المصرية ـ الروسية سوى من إرهاصات قليلة، فعلى هامش قمة البريكس التي عقدت في ديربان في جنوب إفريقيا (مارس 2013) عقد الرئيس السابق محمد مرسي اجتماعاً مع الرئيس بوتين تناول تعزيز العلاقات الثنائية بينهما في جميع المجالات ومنها المجالين الاستثماري والسياحي. كما تم بحث العديد من القضايا الإقليمية والدولية وعلى رأسها الأزمة السورية. أعطت هذه العلاقات أُكلها في العهد الجديد. يلفت النظر إليه تأييد بوتين للسيسي في الترشح للانتخابات الرئاسية في مصر. لقد تم تدشين العلاقات الدبلوماسية بين مصر والاتحاد السوفياتي في عام 1943 عندما جرى تعيين أول سفير لمصر في موسكو. لقد لعب الاتحاد السوفياتي دوراً مهماً في تأييد القضايا الوطنية العربية وبخاصة القضية الفلسطينية فهو قام بتأييد الثورة الفلسطينية وأمدها بالأسلحة وهو ومع منظومة الدول الاشتراكية لعب دوراً في التأييد السياسي للقضية الفلسطينية سواء في الجمعية العامة للأمم المتحدة أو في مجلس الأمن أو في الهيئات والمنظمات التابعة لها، وفي المؤتمرات الدولية عامة. بتصويت الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية وكتلة دول عدم الانحياز نجح الاقتراح الذي تقدمت به هذه الدول للمنظمة الدولية، في اقتران الصهيونية والعنصرية فقد أصدرت الأمم المتحدة في 10 نوفمبر 1975 قراراً يحمل الرقم 3379 “باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”. كذلك الأمر في إعلان المكسيك لعام 1975 وقرار مجلس رؤساء دول حكومات منظمة الوحدة الإفريقية الذي انعقد في كميالا عام 1975 حين تم التأكيد على أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية كان أول قرار عملت الولايات المتحدة وإسرائيل وأصدقائهما من الدول الغربية على تمريره: هو إجبار المنظمة الدولية على إلغاء هذا القرار. بالفعل تم إلغاؤه في عالم القطب الأوحد.
يبقى القول: إننا سنشهد تطوراً في العلاقات المصرية ـ الروسية يشي بإعادة التحالف المتين بين البلدين.
د.فايز رشيد/مصر… روسيا …هل يعود التحالف؟
17
المقالة السابقة