ليس هناك أدنى شك بأن وسائل الإعلام الحديثة كالفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي لعبت دوراً تاريخياً في تحريك الشعوب واستنهاض هممها وتحريضها على الطواغيت والطغيان، ولو لم تلعب وسائل الإعلام هذا الدور، فهي ستكون متواطئة مع الطغاة. لكن رغم تكميم الأفواه على مدى عقود، وتشديد القبضة الأمنية على عنق الإعلام، إلا أن بعض الوسائل شقت عصا الطاعة، وراحت تزلزل الأرض تحت أقدام الديكتاتوريات ومراتع الاستبداد، مما جعل بعض الطواغيت يرتعد خوفاً ورعباً، بعد أن فقد هيبته، وأصبح علكة تتسلى بها الأفواه.
لكن الديكتاتور العربي هنا وهناك، وكي يثأر لكرامته المهدورة التي مسح الإعلام بها الأرض، راح هو وإعلامه الخشبي البائد بعد أن هب الشعب في وجهه، راح يتهم وسائل الإعلام الحديثة بأنها تدمر الأوطان، مع العلم أن من أوصل الأوطان إلى الحضيض، وجعلها كيانات كرتونية صدئة هو الطاغية نفسه من خلال سياساته القمعية الوحشية الفاشية، وتبديده لثروات البلاد ومقدراتها على المغامرات السياسية والعسكرية والأمنية الطائشة والمُهلكة، والمشاريع العائلية المفضوحة. لكنه لم يجد سوى الإعلام الحر كي ينتقم منه، ويحملّه آثام عقود من الطغيان والبغاء السياسي.
كم تبدو أبواق النظام السوري وأشكاله الرثة بائسة وهي تتهم هذه الفضائية أو تلك، أو هذا البرامج أو المذيع أو ذاك بأنه مسؤول عن تدمير سوريا. يريدون تغطية عين الشمس بغربال هؤلاء التافهون الأفاقون المكابرون، خاصة أنهم ما زالوا يعيشون في غياهب استبدادهم وجهلهم الإعلامي السابق. إنهم يكذبون نفس الأكاذيب التي كانوا يكذبونها قبل الثورات. يحاولون تضخيم الكذبة بحيث يصدقها الشعب دون أن يعلموا أن الشعوب لم تعد تصدق ترهاتهم وخرافاتهم وفبركاتهم. أليس حولهم شخص حكيم يقول لهم إن اتهاماتكم لهذه القناة أو تلك، أو هذا المذيع أو ذاك بأنه دمر سوريا لم تعد تنطلي على أطفال الروضات، فما بالك على الأجيال الصاعدة التي تجوب مواقع الإنترنت على مدار الساعة ببراعة عز نظيرها؟ إن مجرد اتهامكم لوسائل الإعلام بتدمير سوريا يدل على أنكم فعلاً مازلتم تعمهون في عوالمكم الظلامية القديمة، ولم تتعلموا شيئاً من عصر السموات المفتوحة الذي عراكم، وفضح عوراتكم، وجعلكم تتخبطون يمنة ويسرة، وتستأجرون نفس الأبواق البالية التي لم تجلب لكم سوى العار والفضيحة والسخرية على مدى عقود.
عندما تزعمون أن قناة أو مذيعاً أو برنامجاً دمر بلداً، فأنتم ترفعون كثيراً من شأن القنوات والبرامج والمذيعين، وتحطون كثيراً من شأن الأوطان والشعوب، وحتى من شأن أنظمتكم. ألم تفكروا بأن يقول لكم أحد إنكم أنظمة كرتونية مهترئة يستطيع صحفي أن يحرقها؟ ما هذا الوطن الذي تهزه قناة فضائية، ويدميه برنامج؟ البلد الذي تستطيع قناة فضائية أو قناتان تدميره لا يستحق أن يكون وطناً أيها المغفلون، فلا ينهار بسرعة البرق إلا بيت العنكبوت. هل بنيتم أوطاناً، أم بيوت عناكب؟ إن المجتمعات المحصنة بالحقوق والوطنية الحقيقية والعلم والتنوير لا يقدر أحد على هزها أو النيل منها. لو فعلاً بنيتم شعوباً ودولاً قوية، لقلتم: “يا جبل ما يهزك ريح”، لكنكم، على ما يبدو، بنيتم قلاعاً من الرمال تذروها الرياح من أول هبة.
عندما بدأت الثورة السورية، وراح بعض رجال الدين يبث بعض البرامج الموجهة للشعب السوري من الخارج، أقام النظام السوري الدنيا ولم يقعدها، وهو يهاجم ويشيطن أصحاب تلك البرامج، لأنهم يخربون البلاد، حسب زعمه. ألا تخجلون من هذه الاتهامات الركيكة؟ ألا يدل ذلك على أن رجل دين بسيطاً قادر على أن يهز عروشكم ببرنامج تلفزيوني، ويحول حياتكم إلى جحيم؟ لقد أعجبني أحد السوريين الذي قال: “لا تتهموا بعض رجال الدين بتخريب سوريا، بل اتهموا ما تسمونه حزبكم التاريخي، حزب البعث العربي الاشتراكي الذي فشل على مدى عقود في تحصين الشعب السوري، وجعله يقع فريسة في يدي هذا الداعية أو ذاك”. أيعقل أن تخافوا من برنامج ديني، مهما كان تحريضياً، ألا تفضحون أنفسكم بأنفسكم؟ ألا تؤكدون أن مجتمعاتكم هشة بهشاشة عصا سليمان التي نخرها النمل؟
لو كان الإعلام يدمر بلداناً أيها السخفاء لكان الإعلام السوري قد دمر إسرائيل وأمريكا والصهيونية والإمبريالية منذ عقود، لأنه كان يتفنن بشتمها وسبها وشيطنتها ومسح الأرض بها منذ عشرات السنين. فلماذا لم تنهر إسرائيل؟ لماذا لم تدمروها بقذائفكم الإعلامية التي كنتم تطلقونها ليل نهار؟ لأنها دول حقيقية لا تخيفها كلمة، ولا يرعبها برنامج حواري.
ولو افترضنا جدلاً أن الهجمة الإعلامية على الديكتاتوريات العربية كانت شرسة جداً، فأين وسائل إعلامكم وإعلاميوكم؟ لماذا فشلوا في التصدي لها ومنعها من تدمير سوريا، كما تزعمون؟ وهل كنتم تعتقدون أنه بمقدوركم وضع كل الإعلاميين الذين يعملون في القنوات الخارجية في سجونكم؟ لماذا ما زلتم تفكرون بمحاربة الإعلام بالطريقة الأمنية البائدة كسجن الصحفيين، وإرهابهم، أو الحجز على أملاكهم؟ على من تعتمدون في استشاراتكم؟ أليس من السخف أن يدير إعلامكم رجال أمن لا يفهمون إلا في فنون التعذيب والإرهاب واستعداء وسائل الإعلام والإعلاميين، بدل مواجهتهم بالطرق الحضارية الحديثة؟ ألا تعلمون أن الحروب الإعلامية لا تمكن مواجهتها بالأساليب الأمنية والعسكرية الفاشية، فلا يمكن مثلاً أن تحارب الإعلام ولا الإعلاميين بالإرهاب والسطو والمصادرات والاعتداء على الأملاك الخاصة، بل بالإعلام الحقيقي المنافس.
لقد قمتم بإخصاء الإعلام الوطني والإعلاميين لعقود وعقود ثم رحتم تشتكون من الإعلام الخارجي “المغرض”. قال شو قال: الإعلام المغرض دمر البلد. طيب! أين إعلامك يا “زعيطو” كي يواجه الإعلام المغرض؟ لقد حولتم الإعلام والإعلاميين المحليين إلى مطايا ومخنثين، ثم أردتموهم أن يكونوا فحولاً فجأة عندما بدأتم تواجهون الإعلام الخارجي. ألا تعلمون أن العليق لا ينفع عند الغارة؟ البلد الذي يتهم وسائل الإعلام بأنها دمرته يجب ألا يلوم سوى إعلامه، فلو كان لديه إعلام يمكن تصديقه، لما استمع شعبه للإعلام العابر للحدود. لقد كان الإعلام السوري وما زال كالشخص الأعمى الذي أمضى عمره في حفظ وإلقاء ما تلقنه إياه فروع الأمن، والآن يُراد له أن يقرأ ويكتب. تخيلوا كيف ستكون كتابته، يصيح حمزة الملوح.
كفاكم رمي قاذوراتكم في ملعب الإعلام الآخر، ومن يتشدق بأنه “قلعة الصمود والتصدي” يجب أن يتعلم كيف يصمد على الأقل في وجه الإعلام، فما بالك في وجه الأعداء.
لا بارك الله ببلاد تستطيع أن تدمرها قناة فضائية أو برنامج حواري أو مذيع!
د.فيصل القاسم/لا بارك الله ببلاد تدمرها فضائيات!
14
المقالة السابقة