لم أنجح، مع الأسف، في مقاومة إغراء الكتابة حول واقعة منع الفنان ذائع الصيت محمد عساف، من إحياء حفل غنائي في غزة، رغم إدراكي المسبق أن هذه الواقعة الصغيرة تقع على هامش الهامش من متن الاهتمامات العامة، ولا تشغل كثيراً بال المتلقين في هذه المرحلة المثقلة بالعواصف، ناهيك عن معرفتي أيضاً بحقيقة أن الاجواء السياسية الفلسطينية الراهنة تدعو إلى ضرورة الإمساك عن بث الشكوك بين يدي حالة تفاؤل طارئة، تعد بإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة المنتظرة.
فقد عاد هذا الفتى الغزي الوسيم في الاأسبوع المنصرم، للمرة الثانية، إلى مسقط رأسه، بعد مرور عدة أشهر على عودته الأولى من برنامج “آراب آيدل” الشهير، وذلك لزيارة أهله وذويه، وإقامة حفل غناء مجاني يردّ فيه بعض الدين لمن شجعوه، وقدموا له الدعم في تلك المسابقة، التي توجته محبوب العرب، ومنحته نجومية كبيرة، قادته ذات مناسبة فلسطينية إلى الغناء في مقر الأمم المتحدة، وسط حفاوة شديدة، وتصفيق حار من جانب ممثلي الدول المختلفة.
احتفيت حينها بفوز محمد عساف من على هذا المنبر، وتحسبت سلفاً لما قد يلاقيه من عنت لدى عودته إلى القطاع المحاصر، خصوصاً عندما زحفت الجموع الغفيرة إلى معبر رفح البري، وكادت تحمل سيارته على الأكتاف. وبالفعل فقد تحققت الظنون سريعاً، حيث لم يجد الشاب القادم لتوه من تحت الأضواء المبهرة أي ترحيب به من جانب سلطة الأمر الواقع، التي تخشى الحشود وتستريب بأصحابها، الأمر الذي حمل الفتى على مغادرة أكبر سجن مقام في الهواء الطلق بسرعة.
قبل أيام قليلة آب الفنان، وهو سفير الامم المتحدة للنوايا الحسنة، أوبة العائد خلسة إلى بيته في مخيم خان يونس منتصف الليل بسيارة مصفحة للأنروا، ثم قدم طلباً لإحياء حفله الغنائي الموعود، فتمّ منعه من جانب داخلية “حماس” بذريعة معلنة، أن الغناء لا يليق بغزة، وأخرى رائجة من قبل، وهي أن الفن يبعث على الرخاوة ويثير الفاحشة، ويقلل من منسوب الرجولة في الإمارة الزاهدة بالفرح حتى وإن كان عرساً جماعياً، المنهمكة في حراسة أسوار الفضيلة بيقظة تامة.
قفل محمد عساف عائداً الى منفاه الموزع بين رام الله وعمان ودبي، يحمل خيبة أمله، ويجاهر بعدم فهم دواعي حظر صوته في ملعب صباه الأول، مؤثراً تجنب إبداء الاحتجاج على من بيدهم الثقيلة زجره بالتي هي أحسن، مبدياً في الوقت ذاته قدراً من التبرم، وإن كان ذلك بدرجة أقل من امتعاض منعه الغناء في حفل افتتاح مونديال البرازيل المقرر هذا الصيف، بضغط من جهات ودول لم يحددها على وجه الدقة، شاكراً للفنانة العالمية شاكيرا انسحابها من الحفل تضامنا معه.
على أي حال، فقد بدا هذا الفنان الغزي الصاعد كالسهم، غير متفاجئ بمنعه من الغناء في أحب المطارح إلى قلبه، مفضلاً التواري بهدوء لدرء ما قد يجره العناد من مضاعفات سلبية قد تطال ذويه، إن لم تنل منه شخصياً، وهو العارف بما كان يلقاه قبل الشهرة الكاسحة من تضييق وملاحقة شملت على نطاق واسع كل مظهر عصري بسيط، مثل قَصّة الشعر الحديثة، وسروال الجينز، والدمى في فاترينات عرض الملابس، فما بالك بالغناء في المناسبات العامة.
من جديد، فقد وددت لو أنني تمكنت من الإفلات من غواية الكتابة حول هذه الواقعة الفقيرة في نصها، الغنية في مغزاها الاجتماعي المباشر، ودلالاتها السياسية الكثيفة، آملاً ألا أبدو كمن يعكر صفو أجواء مصالحة مرتقبة، أحسب ان ترقبها سيطول كثيرا، وأن سهما سوف يطيش مرة أخرى. وهذا باب لنقاش واسع لا محل له في هذه العجالة.
في الختام، أذكر أنني حين زرت الشارقة قبل مدة، وهي المدينة التي عشت فيها سنوات قليلة طيبة، سرني كثيرا الشعار المعلق على مدخلها من جهة دبي، القائل بمحبة وروح ضيافة “ابتسم ..انت في الشارقة” فعذرا، ها أنا اليوم استخدم هذه العبارة الجميلة الموحية، بتصرف محدود، في إطار مناسبة مغايرة.
عيسى الشعيبي/تجهم.. أنت في غزة
16
المقالة السابقة