رغم أن الحكمة تدعو دائماً إلى عدم استعجال النهايات، وتوصي بعدم إصدار الأحكام مسبقاً قبل سماع كل المرافعات، فإنه يمكن القول منذ الآن، إن الغيوم التي تلبدت في سماء سويسرا على مدى أسابيع طويلة سابقة، لم تمطر على منتجع “مونترو” في الموعد المقرر لها، ومرت سريعاً كسرب من الزرافات؛ إن لم نقل إن أجواء مؤتمر “جنيف 2” العتيد قد اكفهرت أكثر من ذي قبل، بل وشهدت هطول أمطار حمضية صفراء.فقد بدا المشهد الدبلوماسي الحافل بالأضواء والكلام والتساؤلات، على مدى اليوم الأول من المؤتمر الذي استغرق الإعداد لانعقاده نحو عشرة أشهر، وكأن وفوده عبارة عن قطع غيار لسيارة أوروبية فارهة، نجح مهندساها الأميركي والروسي، في جمعها على مهل، وإعادة تركيبها بإتقان، ومن ثم عرضها على الجمهور في السوق؛ إلا أنها لم تشتغل، ولم تتمكن من الإقلاع في نهاية الأمر، إما لخلل مصنعي في جهاز نقل السرعة، أو لافتقارها الطاقة اللازمة للاحتراق.ولا نود أن نسيء الظن في كفاءة المهندسين الماهرين في صناعة السيارات، أو قل في خبرات الراعيين لمؤتمر “جنيف 2”. غير أننا في المقابل، نشك في أن أحدهما، أو ربما كليهما، تغاضى سلفاً عن الخلل الميكانيكي لهذا المنتج، الذي كان بمظهره الخارجي الجميل يشد إليه الأبصار للوهلة الأولى، إلا أنه لا يستطيع أن يجد مشتريا واحدا له، عندما فشل في الاختبار وهو بعد في قاعة المعرض الفسيح تحت الأضواء.بكلام آخر، فقد تزاحمت في حفل افتتاح مؤتمر “جنيف 2” كل النبوءات السوداء، وأنذرت الوجوه المتجهمة والإيماءات المتبادلة من على جانبي المائدة الطويلة، كل من كان يحدوهم الأمل، وهم قلّة قليلة، بأن هذا الحفل الباذخ سوف يؤدي إلى خلق ديناميات إيجابية تساعد على حلحلة العقدة الكأداء، أن لا محل لأملهم ذاك من الإعراب، في هذه اللحظة السياسية التي لم تنجل عن متغيرات ميدانية على الأرض، ولم تتبدل فيها الرهانات المعقودة على خيار القوة كأساس لحل النزاع.ففي هذا النزاع الذي تحول إلى حرب أهلية شاملة الأبعاد والنطاقات، بدت التعبيرات السياسية لهذا الصراع داخل القاعة، بعد نحو ثلاث سنوات داميات، وكأن الحرب قد نشبت بالأمس القريب؛ كما بدا الجانبان فيها مفعمان بإرادة ذاتية لا تفتر على كسب الشوط مهما طال المطال، لاسيما من جانب وفد النظام الذي شنّ هجوماً ضارياً ضد جميع الحضور، مع بعض الاستثناءات، في إطار مشهد ينم عن رغبة في اهتبال منبر إعلامي نادر لكسب معركة إعلامية، وقد خسرها على أي حال، وليس لتدشين جولة تفاوضية، لم يكن مقدراً لها النجاح في ظل التوازنات العسكرية القائمة والاستعصاءات السياسية الراهنة.وليس من شك في أن المشاركين في هذا الحفل الافتتاحي سوف يتجنبون الحديث، عندما تطير الطيور إلى أعشاشها عما قريب، عن الفشل والإخفاق، أياً كانت الحصيلة الأولية وكانت الإحباطات الذاتية لديهم، خصوصاً من جانب الدول التي لا تملك رغبة في التدخل العملي، وليس لديها سوى اعتماد الخيار الدبلوماسي مهما احتدم الصراع. لاسيما وأن هؤلاء جميعاً يدركون في قرارة أنفسهم أن الظروف الموضوعية لم تنضج بعد لإدخال الجمل من سم إبرة الخياط، ويعلمون علم اليقين أن القول الحقيقي هو ما تقوله الوقائع على الأرض، وليس الكلمات الملقاة في قاعة قصر المؤتمرات.وعليه، قد لا يمر سوى وقت ضئيل إثر انفضاض هذا الحفل، بصورة دراماتيكية على الأرجح، حتى يتضح لكل ذي لب أن “جنيف 2” كان كأنه شيء لم يكن. فمنذ متى تمكن مؤتمر دولي من حل قضية شائكة إذا كانت الأوزان متعادلة؟ وهل لمؤتمر سيق له طرف بالقوة الجبرية الصامتة، ولديه هامش ضئيل من المناورة، وفائض كثير من القوة الفائضة، أن يسلم طائعا بنقل السلطة، إذا لم يتعرض لتهديد جدي، على نحو ذلك التهديد الذي رآه رؤية العين المجردة، غداة ارتكابه جريمة استخدام الأسلحة الكيماوية صيف السنة الماضية؟
عيسى الشعيبي/”جنيف 2″ كأن شيئاً لم يكن
14
المقالة السابقة