حين يرحل أحد الأشخاص ممن كنت تعرفهم، ولو لماماً، تود لو أنك لم تكن قد قابلته وجهاً لوجه، واكتفيت بالسماع عنه؛ فذلك أخف وطأة على النفس، وأقل مجلبة للأسى والحزن. وتنسحب هذه القاعدة الشعورية، بذات الدرجة أحياناً، على المنازل والأماكن والمدن التي أقمت فيها، واحتفظت بقسط من الذكريات الشخصية عنها.
في غمرة المتابعة اليومية لفصول المأساة السورية، يحز على المرء مشاهدة ما تتعرض له مدن وأحياء كثيرة، وينفعل بصور الأشلاء تحت دمار البراميل المقنبلة. إلا أنه حينما تنقل لك الشاشات وقائع مروعة من عين مكان عشت فيه، وألفت بعض سكانه، يكون الأمر أشد هولاً على النفس بالضرورة.
على هذه الخلفية، كان وقع الأنباء المتواترة عن حصار مخيم اليرموك الذي عرفته شخصيا عن كثب، أقسى على القلب من الأخبار التي تتواتر من مدن وأحياء سورية، ليس لي فيها ذكريات خاصة مماثلة. الأمر الذي حملني على الانهماك أكثر في تسقط كل ما يتصل بمأساة هذا المخيم المحاصر المجوع، خصوصاً في الأسابيع القليلة الماضية.
وبالاعتذار سلفاً لبلدات ومدن وأحياء سورية عزيزة، سبق لي العيش في كنفها، وفتت قلبي ما يتعرض له أهلها، فقد كان قصف “اليرموك” وتدميره وتجويع ناسه، مصدر انفعال أشد، واهتمام أوسع من غيره، ليس بسبب رمزية هذا المخيم فقط، وإنما بسبب فيض من الذكريات عنه وعن كثير من سكانه.
ولعل أسوأ ما في الأخبار السيئة عن وقائع “اليرموك” مؤخراً، هو أن هذا المخيم قد بات في الآونة الأخيرة تحت حصار مزدوج؛ طرفه الأول نظام وحشي لا يقيم وزناً لحياة الآدميين، وطرفه الثاني فصائل فلسطينية، بعضها اسم على غير مسمى، لم تكتف بغض البصر عن الحصار والمجاعة فحسب، وإنما راحت تتبنى رواية النظام الممانع عن الجماعات المسلحة التي تمنع دخول الغذاء إلى ذويها.
بلغت ازدواجية هذا الحصار ذروتها المفجعة، مع وصول وفد منظمة التحرير إلى دمشق، حين أخذ رئيس الوفد يسوغ للنظام الدموي مقارفاته؛ يبرئه ويلقي بتبعة منع إدخال الطعام على كاهل التكفيريين، ويدعو إلى انسحاب المقاتلين عنه سلفاً، بمن فيهم أبناؤه، في مشهد يشي بتخاذل مقيت، وبممالأة سياسية مثيرة للغضب والألم معاً.
وفيما كانت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان نافي بيلاي، تصف ما يحدث في المخيم بجريمة حرب، وتقول إن السلطات السورية هي من تمنع الوكالات الأممية من إدخال الطعام، كان رئيس وفد منظمة التحرير يقول العكس، ويجافي الحقيقة التي ظلت تلهج بها ألسنة النشطاء داخل المخيم، بأن النظام وحلفاءه من “القيادة العامة” هم من يبتزون الجياع، ويطلقون النار على قوافل الإغاثة.
وكان للمرء أن يتسامح بعض الشيء مع موقف رسمي فلسطيني اعتمد سياسة الحياد، وظل يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حيوات لاجئي “اليرموك”، لولا أن بعضا من الكتاب والمثقفين العدميين، ورهطا من السياسيين الفلسطينيين المتقاعدين، راحوا يتماهون مع هذا الخطاب التبريري، ويعمقون حالة الاستهجان التي استبدت بنشطاء المخيم.
وفي التفاصيل الكثيرة التي استمعنا إليها بالصوت والصورة من داخل المخيم، من جانب من هم أدرى بشعابه، تجلت التراجيديا الفلسطينية بالكامل، حيث يطبق “أشقاء” من جماعة أحمد جبريل، ومليشيات طائفية، على أطراف المخيم من جهة، فيما يطبق فصائليون ومثقفون قوميون ويساريون متخشبون، بتبريراتهم وممالآتهم المعيبة، على المخيم من جهة ثانية، معيدين إلى الذاكرة قول طرفة بن العبد في معلقته: “وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهندِ”.
واليوم، إذا كانت قد سقطت من ذاكرة هؤلاء المشاركين أخلاقيا في تجويع “اليرموك”، واقعة سحق مخيم تل الزعتر مثلاً، فإننا نحيلهم إلى ما جرى في معظمية الشام وحي برزة الدمشقي مؤخراً، كي يروا أن الحصار والتجويع سياسة منهجية معتمدة، حقق النظام معها ما لم تتمكن راجمات الصواريخ والمدفعيات من تحقيقه؛ إذ رضي المقاتلون هناك بالانكفاء، بعد أن عضهم الجوع بأنيابه، وهو ما يحاول النظام الممانع إملاءه الآن على مخيم اليرموك تماما.
عيسى الشعيبي /”اليرموك” وتراجيديا الحصار المزدوج
19
المقالة السابقة