ليست المرة الأولى التي تتطرق «العدالة الدولية» الى جريمة أو جرائم إرهابية، في بلد ما، وتخضع فيه المحكمة أو المحاكم المولجة النظر فيها، لانقسام داخلي. سبق أن حصل هذا الانقسام السياسي الداخلي في يوغوسلافيا إزاء المحكمة الخاصة بها، وفي رواندا وغيرها، لكن مجريات المحاكمات استمرت ونتجت منها أحكام دوّت في العالم وانعكست على مجريات الأمور في كل بلد من البلدان، التي خضعت الجرائم فيها لهذا النمط من القضاء الدولي.
كُثُر ممن عارضوا محاكم أنشئت من أجل محاكمة متهمين بالإجرام السياسي، عادوا فغيّروا رأيهم بعد أن شهدوا جدية تلك المحاكم في عرضها الأدلة وفي اتخاذها الأحكام وفي تبرئتها متهمين أو وقف محاكمتهم لعدم كفاية القرائن والأدلة. لكن من ينتمون الى الفريق السياسي الذي ارتكب أنواع الجرائم هذه بقوا، إما صراحة أو ضمناً، معارضين للعدالة الدولية وغالباً ما استخدم هؤلاء حججاً واهية، من نوع أن العدالة الدولية مسيّسة، متناسين أن الجرائم نفسها هي سياسية، ويسهل نتيجة لذلك وصم أدوات العدالة بأنها مسيّسة، أو بأن هذه الأجهزة تحاكم جرائم وتمتنع عن محاكمة أخرى لأسباب سياسية. وهذه الحجة تشكل اعترافاً بمسؤولية فريق أو مجموعة بعينها عن جريمة ما لكنها ترفض الانتقائية فتبرر الجريمة الواقعة وارتكابها ممن هم متهمون بها، بعدم إخضاع مثيلاتها أو ما يشبهها للمحاكمة أيضاً.
وقد يستطيع معارضو محكمة لبنان سوق الحجة القائلة إن من أنشأوا هذه المحكمة هم أنفسهم، كمسؤولي دول وقادة، ارتكبوا جرائم يمكن وصفها بالإرهابية أو ضد الإنسانية، فلماذا لا يحاكمون؟ خلاصة هذه الحجة هي أنه إذا أفلت أقوياء من العقاب، لماذا الإصرار على معاقبة آخرين؟ ولماذا لا تجري المساواة في الإفلات من العقاب مثلما يسهّل المجتمع الدولي إفلات إسرائيل من العقاب على جرائمها، ومثل آرييل شارون الذي مات بطلاً في نظر بعض شعبه وبعض قادة العالم، فيما هو سفاح ومجرم؟ لكن هؤلاء يتناسون عن سابق تصور وتصميم أنهم يبررون لأمثال شارون القيام بما قام وقاموا به، كي يبرروا لأنفسهم، أو لمن يوالونهم جرائم مماثلة للتي ارتكبها أشباه شارون. إنهم بهذا يتحولون هم أنفسهم الى نسخة أخرى عن الشارونية.
قد يهزأ بعض هؤلاء المعارضين للعدالة الدولية في ما يخص جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، من اعتبار افتتاح جلسات المحاكمات أمس في لاهاي بأنه «يوم تاريخي»، لشدة عدم اكتراثهم بالأحكام التي يمكن أن تصدر عنها مهما طالت تلك الجلسات. لكن من المؤكد أنهم وهم يهزأون بهذا الوصف يدركون في أعماقهم أن التاريخ سيذكرهم، والأجيال ستحفظ أسماءهم وانتماءهم السياسي ومن يقف وراءهم من الدول والزعامات والمسؤولين، فتجربة المحكمة الخاصة بلبنان ستتحول الى حالة قائمة بذاتها، نظراً الى فرادتها، وإلى موضوع دراسة في الاختصاصات القانونية والقضائية والتقنية.
من يستهزئون بتاريخية افتتاح الجلسات لا بد من أن يصيبهم اصفرار الوجه أو الانهيار العصبي، ولو للحظات، جراء الخوف من انكشاف الكثير من الحقائق، حتى لو كانوا يعوّلون على بعض الألاعيب التي سعوا إليها من أجل تهشيم عمل المحكمة والتحقيق الدولي لتسخيف الأدلة. وليس مستبعداً أن يكونوا قد أرسلوا الى لاهاي أحد المشاركين في التخطيط لجريمة اغتيال الحريري، أو الذين ساهموا في تنفيذها، أو الذين لعبوا دوراً في التمويه على وقائعها، لعلّه يتمكن من ابتداع بعض السيناريوات المعاكسة لمدّ بعض محامي الدفاع بها. فالعقل المجرم يعتقد أنه قادر على ابتداع وسائل التغطية ويتوهم أنه فائق الذكاء ولا يؤمن بأن ما من جريمة، أي جريمة، على وجه الأرض كاملة لا تحتمل الخطأ، بل أن في كل جريمة ثغرة.
الثغرة الأساس في أي جريمة سياسية مثل اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه ثم الاغتيالات التي تبعتها، تكمن في أن من يسعى الى تغيير واقع سياسي أو الى منع حصول تغيير سياسي عبر أسلوب القتل، يكون يتمتع بشعور زائف بالقوة المطلقة وبالسلطة التي يستحيل أن ينازعه أحد عليها الى درجة أنه لا يتورّع عن المجاهرة بما يفعل لإرهاب خصومه فيصبح مدمناً نشوة التفوّق الإجرامي، الى درجة تجعله لا يكترث بثغرة هنا أو ثغرة هناك، فهو يتقن المواجهة بابتداع وسائل العنف والتحايل المدعوم بمظلة الاستقواء والتمويه بالشعارات السياسية الكبرى واختراع شعارات المعارك الكبرى البراقة. لكنه يفاجأ بضعفه أمام المواجهة بالوسائل القانونية والقضائية فيبدو شديد الغباء بعد انكشافه.
وليد شقير/اليوم التاريخي والمجرم الغبي
16
المقالة السابقة